للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْمَيْتَةُ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فِيهَا قَائِمٌ وَلِذَا لَا يَطِيبُ مَعَ قِيَامِهِ وَلِهَذَا يَفْسُدُ فِي أَدْنَى مُدَّةِ مَا يَفْسُدُ فِي مِثْلِهَا الْمَذْبُوحُ، وَكَذَا الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ لِمَا قُلْنَا.

وَالذَّبْحُ هُوَ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَمَحَلُّهُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللِّحْيَةِ» أَيْ مَحَلُّ الذَّكَاةِ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ وَرُوِيَ الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَالنَّحْرُ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَمَحَلُّهُ آخِرُ الْحَلْقِ، وَلَوْ نُحِرَ مَا يُذْبَحُ وَذُبِحَ مَا يُنْحَرُ يَحِلُّ لِوُجُودِ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ وَفِي غَيْرِهَا الذَّبْحُ.

أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْإِبِلِ النَّحْرَ وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحَ فَقَالَ ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: ٢] قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ أَيْ: انْحَرْ الْجَزُورَ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠٧] وَالذِّبْحُ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ سَيِّدُنَا إسْمَاعِيلُ أَوْ سَيِّدُنَا إِسْحَاقُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - عَلَى اخْتِلَافِ أَصْلِ الْقِصَّةِ فِي ذَلِكَ وَكَذَا «النَّبِيُّ نَحَرَ الْإِبِلَ وَذَبَحَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ» فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْإِبِلَ قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّحْرَ فِي الْإِبِلِ هُوَ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الذَّكَاةِ إنَّمَا هُوَ الْأَسْهَلُ عَلَى الْحَيَوَانِ وَمَا فِيهِ نَوْعُ رَاحَةٍ لَهُ فِيهِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» .

وَالْأَسْهَلُ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ لِخُلُوِّ لَبَّتِهَا عَنْ اللَّحْمِ وَاجْتِمَاعِ اللَّحْمِ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ خَلْفِهَا، وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ جَمِيعُ حَلْقِهَا لَا يَخْتَلِفُ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» ؟ أَيْ: وَنَحَرْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَانَ خَبَرُ الْأَوَّلِ خَبَرًا لِلثَّانِي كَقَوْلِنَا: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَالْجَوَابُ أَنَّ الذَّبْحَ مُضْمَرٌ فِيهِ وَمَعْنَاهُ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الشَّيْءِ إذَا عُطِفَ عَلَى غَيْرِهِ وَخَبَرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ فِي الْمَعْطُوفِ أَوْ لَا يُوجَدُ عَادَةً أَنْ يُضْمَرَ الْمُتَعَارَفُ الْمُعْتَادُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَقِيت زَوْجَك فِي الْوَغَى … مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا

أَيْ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَمُعْتَقِلًا رُمْحًا، وَقَالَ آخَرُ:

عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

أَيْ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا؛ لِأَنَّ الرُّمْحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّقَلُّدَ أَوْ لَا يُتَقَلَّدُ عَادَةً، وَالْمَاءُ لَا يُعْلَفُ بَلْ يُسْقَى كَذَا هَهُنَا الذَّبْحُ فِي الْبَقَرِ هُوَ الْمُعْتَادُ فَيُضْمَرُ فِيهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: نَحَرْنَا الْبَدَنَةَ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاء - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.

وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا ذَبَحَ الْبَدَنَةَ لَا تَحِلُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ فِي الْبَدَنَةِ بِالنَّحْرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: ٢] فَإِذَا ذَبَحَ فَقَدْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَا يَحِلُّ.

وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالنَّحْرِ فِي الْبَدَنَةِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِنْهَارِ الدَّمِ وَإِفْرَاءِ الْأَوْدَاجِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ أَسْفَلِهِ أَوْ أَوْسَطِهِ أَوْ أَعْلَاهُ؛ لِقَوْلِهِ «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ» ، وَقَوْلِهِ «الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إخْرَاجُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَتَطْيِيبُ اللَّحْمِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ.

ثُمَّ الْأَوْدَاجُ أَرْبَعَةٌ: الْحُلْقُومُ، وَالْمَرِيءُ، وَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ بَيْنَهُمَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ، فَإِذَا فَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ فَقَدْ أَتَى بِالذَّكَاةِ بِكَمَالِهَا وَسُنَنِهَا وَإِنْ فَرَى الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَطَعَ أَكْثَرَ الْأَوْدَاجِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا أَيُّ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ وَتَرَكَ وَاحِدًا يَحِلُّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَحِلُّ حَتَّى يُقْطَعَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَأَحَدُ الْعِرْقَيْنِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَحِلُّ حَتَّى يُقْطَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ أَكْثَرُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا قُطِعَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ حُلَّ إذَا اُسْتُوْعِبَ قَطْعُهُمَا.

(وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الذَّبْحَ إزَالَةُ الْحَيَاةِ وَالْحَيَاةُ لَا تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ عَادَةً وَقَدْ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إذْ هُمَا عِرْقَانِ كَسَائِرِ الْعُرُوقِ، وَالْحَيَاةُ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ عِرْقَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْعُرُوقِ.

(وَلَنَا) أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الذَّبْحِ إزَالَةُ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِقَطْعِ الْوَدَجِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ الْأَكْثَرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ وَهُوَ خُرُوجُ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ مَا يَخْرُجُ

<<  <  ج: ص:  >  >>