أَنَّ الْأَدَاءَ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ أُقِيمَ مَقَامَ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ ﷿ وَرَحْمَةً، كَمَا أُقِيمَ صَوْمُ شَهْرٍ فِي السَّنَةِ مَقَامَ جَمِيعِ السَّنَةِ، وَأُقِيمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَقَامَ الصَّلَاةِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ فِي الْوَقْتِ بَقِيَ الْوُجُوبُ فِي غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَجَبَتْ فِي الْوَقْتِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَقُولُ إنَّهَا لَا تُقْضَى بِالْإِرَاقَةِ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تُعْقَلُ قُرْبَةً وَإِنَّمَا جُعِلَتْ قُرْبَةً بِالشَّرْعِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَاقْتَصَرَ كَوْنُهَا قُرْبَةً عَلَى الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ فَلَا تُقْضَى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، ثُمَّ قَضَاؤُهَا قَدْ يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِ الشَّاةِ حَيَّةً وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ بِقِيمَةِ الشَّاةِ؛ فَإِنْ كَانَ أَوْجَبَ التَّضْحِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِشَاةٍ بِعَيْنِهَا فَلَمْ يُضَحِّهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ يَتَصَدَّقْ بِعَيْنِهَا حَيَّةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْوَالِ التَّقَرُّبُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا لَا بِالْإِتْلَافِ وَهُوَ الْإِرَاقَةُ إلَّا أَنَّهُ نُقِلَ إلَى الْإِرَاقَةِ مُقَيَّدًا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ حَتَّى يَحِلَّ تَنَاوُلُ لَحْمِهِ لِلْمَالِكِ وَالْأَجْنَبِيِّ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؛ لِكَوْنِ النَّاسِ أَضْيَافَ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَلِكَ الْمُعْسِرُ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا فَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِلْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْفَقِيرِ كَالنَّذْرِ بِالتَّضْحِيَةِ وَأَمَّا الْمُوسِرُ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هَذَا الْجَوَابُ فِي الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ الْمُشْتَرَاةَ لِلْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْمُعْسِرِ تَتَعَيَّنُ لِلْأُضْحِيَّةِ؛ فَأَمَّا مِنْ الْمُوسِرِ فَلَا تَتَعَيَّنُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ أُخْرَى فِي الْوَقْتِ مَعَ بَقَاءِ الْأُولَى وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ مِنْ الْمُوسِرِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا ﵀ ذَكَرَ عَقِيبَ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَوْلُنَا.
(وَوَجْهُهُ) أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ قَارَنَتْ الْفِعْلَ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَأَوْجَبَتْ تَعْيِينَ الْمُشْتَرِي لِلْأُضْحِيَّةِ، إلَّا أَنَّ تَعْيِينَهُ لِلْأُضْحِيَّةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِغَيْرِهَا كَتَعْيِينِ النِّصَابِ لِأَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْأَدَاءِ بِغَيْرِهِ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتَعَيَّنَ لَا يُزَاحِمُهُ غَيْرُهُ، فَإِذَا ضَحَّى بِغَيْرِهِ أَوْ أَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ لَمْ يَبْقَ الْأَوَّلُ مُتَعَيَّنًا، فَكَانَتْ الشَّاةُ مُتَعَيَّنَةٌ لِلتَّضْحِيَةِ مَا لَمْ يُضَحِّ بِغَيْرِهَا كَالزَّكَاةِ.
وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا اشْتَرَى وَهُوَ مُوسِرٌ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ تَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجِبْ وَلَمْ يَشْتَرِ لَمْ يَتَعَيَّنْ شَيْءٌ لِلْأُضْحِيَّةِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ إرَاقَةُ دَمِ شَاةٍ فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ - وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّقَرُّبِ بِالْإِرَاقَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِمَا قُلْنَا - انْتَقَلَ الْوَاجِبُ مِنْ الْإِرَاقَةِ وَالْعَيْنِ أَيْضًا لِعَدَمِ التَّعْيِينِ إلَى الْقِيمَةِ وَهُوَ قِيمَةُ شَاةٍ يَجُوزُ ذَبْحُهَا فِي الْأُضْحِيَّةَ وَلَوْ صَارَ فَقِيرًا بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ أَوْ بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى الْوَقْتُ صَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ لِفَقْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ فَلَمْ يَتَصَدَّقْ وَلَكِنْ ذَبَحَهَا يَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهَا وَيُجْزِيهِ ذَلِكَ إنْ لَمْ يُنْقِصْهَا الذَّبْحُ وَإِنْ نَقَصَهَا يَتَصَدَّقْ بِاللَّحْمِ وَقِيمَةِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا غَرِمَ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا لِمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا لَا يَأْكُلُ مِنْهَا إذَا ذَبَحَهَا بَعْدَ وَقْتِهَا أَوْ فِي وَقْتِهَا فَهُوَ سَوَاءٌ.
وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يُتَصَدَّقَ عَنْهُ بِقِيمَةِ شَاةٍ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى الْوَقْتُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ شَاةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى تَخْلِيصِ نَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ، وَالْوَصِيَّةُ طَرِيقُ التَّخْلِيصِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُضَحَّى عَنْهُ وَلَمْ يُسَمِّ شَاةً وَلَا بَقَرَةً وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ أَيْضًا جَازَ وَيَقَعُ عَلَى الشَّاةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا وَلَا ثَمَنًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَحْتَمِلُ مِنْ الْجَهَالَةِ شَيْئًا لَا تَحْتَمِلُهُ الْوَكَالَةُ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَجْهُولِ وَلِلْمَجْهُولِ تَصِحُّ وَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ.
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَيُضَحِّيَ عَنْهُ إنْ مَاتَ فَمَاتَ - وَثُلُثُهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُضَحِّي عَنْهُ بِمَا يَبْلُغُ الثُّلُثَ، عَلَى قِيَاسِ الْحَجِّ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِمِائَةٍ - وَثُلُثُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَةٍ - فَإِنَّهُ يَحُجُّ بِمِائَةٍ بِخِلَافِ الْعِتْقِ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ عَبْدٌ بِمِائَةٍ - وَثُلُثُهُ أَقَلُّ - إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَالٍ مُقَدَّرٍ فِيمَا هُوَ قُرْبَةٌ فَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا أَمْكَنَ كَمَا فِي الْحَجِّ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّ مَصْرِفَ الْوَصِيَّةِ فِي الْعِتْقِ هُوَ الْعَبْدُ فَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِعَبْدٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ مِائَةً فَإِذَا اشْتَرَى بِأَقَلَّ