للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الضَّأْنِ إذَا كَانَ ضَخْمًا، وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ الَّذِي أَوْجَبَ إلَّا فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْسَ الْبَيْتِ بَلْ الْبُقْعَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَهِيَ الْحَرَمُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يُرَاقُ فِي الْبَيْتِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] نَفْسُ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَهَهُنَا أَضَافَهُ إلَى الْبَيْتِ، لِذَلِكَ افْتَرَقَا؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَانِ الْهَدَايَا، وَمَكَانُ الْهَدَايَا هُوَ الْحَرَمُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى رُكُوبِهَا رَكِبَهَا، وَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ رُكُوبُهُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَنَاسِكِ.

وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الذَّبْحَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ بِقِيمَتِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُذْبَحُ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ جَازَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ.

وَلَوْ أَوْجَبَ بَدَنَةً فَذَبَحَهَا فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ ذَبَحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ عَنْ نَذْرِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَلَوْ أَوْجَبَ جَزُورًا فَلَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْحَجِّ.

وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُ هَدْيٌ أَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ يُمْسِكُ بَعْضَ مَالِهِ وَيُمْضِي الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْهَدْيَ وَالصَّدَقَةَ إلَى جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ جِنْسِ أَمْوَالِهِ، وَيَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إلَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ : «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» فَكَانَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِقْدَارَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفِيهِ إلَى أَنْ يَكْتَسِبَ، فَإِذَا اكْتَسَبَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبَ الْإِخْرَاجِ عَنْ مِلْكِهِ لِجِهَةِ الصَّدَقَةِ، فَكَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهُ، كَمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ.

وَلَوْ قَالَ مَالِي صَدَقَةٌ فَهَذَا عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَالْأَثَاثِ وَالْعُرُوضِ الَّتِي لَا يَقْصِدُ بِهَا التِّجَارَةَ وَالْعَوَامِلَ وَأَرْضَ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مِقْدَارِ النِّصَابِ وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الزَّكَاةِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْجِنْسُ لَا الْقَدْرُ؟ وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، فَإِنْ قَضَى دِينَهُ بِهِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِمِثْلِهِ لِمَا ذَكَرنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرنَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ كَمَا فِي فَصْلِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ اسْمٌ لِمَا يُمْلَكُ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ كَالْمِلْكِ.

(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّذْرَ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِإِيجَابِ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ السَّبَبِ الدَّالِ عَلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ الْإِيجَابُ الْمُضَافُ إلَى الْمَالِ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْأَمْرِ وَهُوَ الزَّكَاةُ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ [المعارج: ٢٤] وَنَحْوُ ذَلِكَ تَعَلَّقَ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَكَذَا فِي النَّذْرِ وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - إذَا حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَالًا، وَلَا نِيَّةَ، لَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَالُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَالِ لَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا نَوَى بِهَذَا النَّذْرِ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ - دَارُهُ تَدْخُلُ فِي نَذْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا دُونَ النِّصَابِ وَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا.

وَإِذَا كَانَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ عُشْرِيَّةٌ أَوْ غَلَّةٌ عُشْرِيَّةٌ تَصَدَّقَ بِهَا فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ الْعُشْرُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَدْخُلُ الْأَرْضُ فِي النَّذْرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَصَدَّقُ بِهَا لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهَا فَتَدْخُلُ فِي النَّذْرِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنْهَا فَلَا تَدْخُلُ.

قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا جَعَلَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ يُعْتَبَرُ بِأَصْلِ الْإِيجَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِعَدَدٍ مِنْ الْمَسَاكِينِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى بَعْضِهِمْ إلَّا عَلَى التَّفْرِيقِ فِي الْأَيَّامِ فَكَذَا النَّذْرُ.

وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِيهَا جَمِيعَ الْمَسَاكِينُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: ٦٠] ، كَذَلِكَ النَّذْرُ.

وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هَذَا الْمِسْكِينَ هَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>