مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ إلَيْهِ؟ وَكَذَا لَمْ يُؤَخِّرْ الْعِشَاءَ إلَى مَا بَعْدَ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَأَمَّا) أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَحِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، لِمَا رُوِيَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الشَّفَقِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الْبَيَاضُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمُعَاذٍ وَعَائِشَةَ ﵃، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ هُوَ الْحُمْرَةُ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ﵃ وَهُوَ رِوَايَةُ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْعِشَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ» ، فَلَوْ كَانَ الشَّفَقُ هُوَ الْبَيَاضُ لَمَا كَانَ مُؤَخِّرًا لَهَا، بَلْ كَانَ مُصَلِّيًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَبْقَى إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ خُصُوصًا فِي الصَّيْفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النَّصُّ وَالِاسْتِدْلَالُ.
(أَمَّا) النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: ٧٨] ، جَعَلَ الْغَسَقَ غَايَةً لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَلَا غَسَقَ مَا بَقِيَ النُّورُ الْمُعْتَرِضُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ وَبَيَاضُهُ، وَالْمُعْتَرِضُ نُورُهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ يَسْوَدُّ الْأُفُقُ، وَإِنَّمَا يَسْوَدُّ بِإِخْفَائِهَا بِالظَّلَامِ.
(وَأَمَّا) الِاسْتِدْلَال فَمِنْ وَجْهَيْنِ: لُغَوِيٍّ، وَفِقْهِيٍّ، أَمَّا اللُّغَوِيُّ فَهُوَ أَنَّ الشَّفَقَ اسْمٌ لِمَا رَقَّ، يُقَالُ: ثَوْبٌ شَفِيقٌ أَيْ رَقِيقٌ، إمَّا مِنْ رِقَّةِ النَّسْجِ وَإِمَّا لِحُدُوثِ رِقَّةٍ فِيهِ مِنْ طُولِ اللُّبْسِ، وَمِنْهُ الشَّفَقَةُ وَهِيَ رِقَّةُ الْقَلْبِ مِنْ الْخَوْفِ أَوْ الْمَحَبَّةِ، وَرِقَّةُ نُورِ الشَّمْسِ بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَ الْبَيَاضُ.
وَقِيلَ الشَّفَقُ اسْمٌ لِرَدِيءِ الشَّيْءِ وَبَاقِيهِ، وَالْبَيَاضُ بَاقِي آثَارِ الشَّمْسِ وَأَمَّا الْفِقْهِيُّ فَهُوَ أَنَّ صَلَاتَيْنِ تُؤَدَّيَانِ فِي أَثَرِ الشَّمْسِ وَهُمَا الْمَغْرِبُ مَعَ الْفَجْرِ، وَصَلَاتَيْنِ تُؤَدَّيَانِ فِي وَضَحِ النَّهَارِ وَهُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، فَيَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَ صَلَاتَيْنِ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الشَّمْسِ وَهُمَا الْعِشَاءُ وَالْوِتْرُ، وَبَعْدَ غَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ لَا يَبْقَى أَثَرٌ لِلشَّمْسِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَغِيبُ قَبْلَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ غَالِبًا وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَحِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ ﵇ صَلَّى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِآخِرِ الْوَقْتِ، وَفِي قَوْلٍ يُؤَخِّرُ إلَى آخِرِ نِصْفِ اللَّيْلِ بِعُذْرِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخَّرَ لَيْلَةً إلَى النِّصْفِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ لَنَا بِعُذْرِ السَّفَرِ (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ، وَآخِرُهُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ أُخْرَى» وَقَّتَ عَدَمَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ إلَى غَايَةِ خُرُوجِ وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الدُّخُولُ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَمْ يَتَوَقَّفْ؛ وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مِنْ تَوَابِعِ الْعِشَاءِ وَيُؤَدَّى فِي وَقْتِهَا، وَأَفْضَلُ وَقْتِهَا السَّحَرُ دَلَّ أَنَّ السَّحَرَ آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ؛ وَلِأَنَّ أَثَرَ السَّفَرِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ لَا فِي زِيَادَةِ الْوَقْتِ، وَإِمَامَةُ جِبْرِيلَ ﵇ كَانَ تَعْلِيمًا لِآخِرِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ ثُلُثُ اللَّيْلِ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ فَالسَّمَاءُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً فَإِنْ كَانَتْ مُصْحِيَةً فَفِي الْفَجْرِ الْمُسْتَحَبُّ آخِرُ الْوَقْتِ، وَالْأَسْفَارُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّغْلِيسِ بِهَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ، إلَّا فِي حَقِّ الْحَاجِّ بِمُزْدَلِفَةَ فَإِنَّ التَّغْلِيسَ بِهَا أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنْ كَانَ مِنْ عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّغْلِيسِ بِهَا وَيَخْتِمَ بِالْإِسْفَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْإِسْفَارُ أَفْضَلُ مِنْ التَّغْلِيسِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّغْلِيسُ بِهَا أَفْضَلُ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَجُمْلَةُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرْضِ لِأَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ وَحْدَهُ مَا دَامَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوَقْتِ، (وَاحْتَجَّ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٣] ، وَالتَّعْجِيلُ مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ، وَذَمَّ اللَّهُ - تَعَالَى - أَقْوَامًا عَلَى الْكَسَلِ فَقَالَ: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ [النساء: ١٤٢] ، وَالتَّأْخِيرُ مِنْ الْكَسَلِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا.
وَقَالَ ﷺ:: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُ الْوَقْتِ عَفْوُ اللَّهِ» أَيْ يُنَالُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَيُنَالُ بِأَدَائِهَا فِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَاسْتِيجَابُ الرِّضْوَانِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِيجَابِ الْعَفْوِ؛ لِأَنَّ الرِّضْوَانَ أَكْبَرُ الثَّوَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢] ، وَيُنَالُ بِالطَّاعَاتِ، وَالْعَفْوُ يُنَالُ بِشَرْطِ سَابِقِيَّةِ الْجِنَايَةِ.
وَرُوِيَ فِي الْفَجْرِ خَاصَّةً عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ