فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ، (وَاحْتُجَّ) بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ ﵄ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَجْمَعُ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبِمُزْدَلِفَةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي السَّفَرِ كَيْ لَا يَنْقَطِعَ بِهِ السَّيْرُ، وَفِي الْمَطَرِ كَيْ تَكْثُرَ الْجَمَاعَةُ، إذْ لَوْ رَجَعُوا إلَى مَنَازِلِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ الرُّجُوعُ فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بِهَذَا كَمَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبِمُزْدَلِفَةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
(وَلَنَا) أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ الْكَبَائِرِ فَلَا يُبَاحُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ» ، وَعَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عُرِفَتْ مُؤَقَّتَةً بِأَوْقَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْمَقْطُوعِ بِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا بِضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ وَالْمَطَرَ لَا أَثَرَ لَهُمَا فِي إبَاحَةِ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ مَعَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْعُذْرِ؟ وَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ مَا كَانَ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُضَادُّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، بَلْ ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ وَالتَّوَاتُرِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فَصَلُحَ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَكَذَا الْجَمْعُ بِمُزْدَلِفَةَ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسَّيْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إبَاحَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فِي خَبَرِ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ غَرِيبٌ وَرَدَ فِي حَادِثَةٍ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا ثُمَّ هُوَ مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا لَا وَقْتًا، بِأَنْ أَخَّرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَدَّى الْأُخْرَى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فَوَقَعَتَا مُجْتَمِعَتَيْنِ فِعْلًا، كَذَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ ﵄ فِي سَفَرٍ وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ جَمَعَ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ وَلَا سَفَرٍ» وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِعْلًا، وَعَنْ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمَكْرُوهُ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فَهُوَ وَقْتُ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لِلْمَغِيبِ لِأَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، يُكْرَهُ أَدَاؤُهَا عِنْدَهُ لِلنَّهْيِ عَنْ عُمُومِ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ: مِنْهَا - إذَا تَضَيَّفَتْ الشَّمْسُ لِلْمَغِيبِ عَلَى مَا يُذْكَرُ.
وَقَدْ وَرَدَ وَعِيدٌ خَاصٌّ فِي أَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «يَجْلِسُ أَحَدُكُمْ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا» ، لَكِنْ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ حَتَّى يَسْقُطَ الْفَرْضُ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْفَرْضِ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْضَ قَبْلَهُ، وَكَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْفَجْرِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَنَا، حَتَّى لَوْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَفْسُدُ وَيَقُولُ: إنَّ النَّهْيَ عَنْ النَّوَافِلِ لَا عَنْ الْفَرَائِضِ بِدَلِيلِ أَنَّ عَصْرَ يَوْمِهِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَنَحْنُ) نَقُولُ النَّهْيُ عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا لِمَا يُذْكَرُ فِي قَضَاءِ الْفَرَائِضِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَجْرَ لَا تَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ لَكِنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ فَيُتِمَّ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا كَذَلِكَ لَكَانَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَلَوْ أَفْسَدْنَا لَوَقَعَ الْكُلُّ خَارِجَ الْوَقْتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَالْفَرْقُ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَدِّي الْعَصْرَ إذَا غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَمِنْهَا) - النِّيَّةُ وَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥] ، وَالْإِخْلَاصُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ» .
وَقَالَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» ، وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي تَفْسِيرِ النِّيَّةِ، وَالثَّانِي - فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ، وَالثَّالِثُ - فِي وَقْتِ النِّيَّةِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالنِّيَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ، فَنِيَّةُ الصَّلَاةِ هِيَ إرَادَةُ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَالْإِرَادَةُ عَمَلُ الْقَلْبِ.
(وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَدِيًا.
فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا إنْ كَانَ