للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عِنْدَ الْعَقْدِ، فَاخْتَلَفَ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِحَالِ الْعَقْدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَوْجُودَ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْعَيْبَ لِأَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِيهِ لِأَبْعَدِهِمَا، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعَيْبِ أَصْلٌ، وَالْوُجُودُ عَارِضٌ، فَكَانَ إحَالَةُ الْمَوْجُودِ إلَى أَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْأَصْلِ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ذَلِكَ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ.

وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا، وَقَبَضَهُ فَسَاوَمَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرِهِ، فَإِنَّهُ لَا عَيْبَ بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقْ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: إنَّك أَقْرَرْتَ أَنَّهُ لَا عَيْبَ بِهِ، فَقَدْ أَكْذَبْت شُهُودَكَ لَا يَبْطُلُ بِهَذَا الْكَلَامِ حَقُّهُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْمُتَعَارَفِ لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَرْوِيجِ السِّلْعَةِ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَهُ كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَى عَنْهُ الْعُيُوبَ كُلَّهَا، وَالْآدَمِيُّ لَا يَخْلُو عَنْ عَيْبٍ، فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، وَلَوْ عَيَّنَ نَوْعًا مِنْ الْعُيُوبِ بِأَنْ قَالَ: اشْتَرِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِهِ عَيْبُ كَذَا، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، وَأَرَادَ الرَّدَّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَوْعًا آخَرَ سِوَى النَّوْعِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا إقْرَارَ مِنْهُ بِهَذَا النَّوْعِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الَّذِي عَيَّنَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مِمَّا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ فِي الْمُتَعَارَفِ لَا تَرْوِيجُ السِّلْعَةِ، فَصَارَ مُنَاقِضًا؛ وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ يَخْلُو عَنْ عَيْبٍ مُعِينٍ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِكَذِبِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِهِ حَقِيقَةً، فَالْتَحَقَ كَلَامُهُ بِالْعَدَمِ.

وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ عَيْبٍ، وَاحِدٍ شَجَّةٍ أَوْ جُرْحٍ، فَوَجَدَ شَجَّتَيْنِ أَوْ جُرْحَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي يَرُدُّ أَيَّهمَا شَاءَ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّدِّ بِاعْتِرَاضِ أَسْبَابِ الِامْتِنَاعِ مِنْ هَلَاكِ الْمَبِيعِ أَوْ حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ الرَّدِّ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، فَأَمَّا عِنْدَ إمْكَانِ الرَّدِّ، فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي، وَالِاحْتِمَالُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْبَرَاءَةَ إلَى شَجَّةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ عَيْنٍ، وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَالُ مِنْهُ كَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَكِنَّ مَنْفَعَةَ الْإِبْرَاءِ عَائِدَةٌ إلَى الْبَائِعِ، فَصَارَ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ، فَوَّضَ التَّعْيِينَ إلَيْهِ، فَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُسَمَّى مَرَضًا لَا دَاءً.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ دَاءٌ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلِّ غَائِلَةٍ، فَهِيَ عَلَى السَّرِقَةِ، وَالْإِبَاقِ وَالْفُجُورِ وَكُلِّ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْغَائِلَةَ هِيَ الْجِنَايَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُكْتَبُ فِي عُهْدَةِ الْمَمَالِيكِ لَا دَاءَ، وَلَا غَائِلَةَ عَلَى مَا «كُتِبَ لِرَسُولِ اللَّهِ حِينَمَا اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً، وَهَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَا دَاءَ بِهِ، وَلَا غَائِلَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ» ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) طَرِيقُ إثْبَاتِ الْعَيْبِ، فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْعُيُوبِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ الْعَيْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَيْبِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْعَيْبُ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا شَاهِدًا يَقِفُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَالسَّاقِطَةِ وَبَيَاضِ الْعَيْنِ وَالْعَوَرِ وَالْقُرُوحِ وَالشِّجَاجِ وَنَحْوِهَا (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ بَاطِنًا خَفِيًّا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ، وَهُمْ الْأَطِبَّاءُ، وَالْبَيَاطِرَةُ.

(وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ بِأَنْ كَانَ عَلَى فَرْجِ الْجَارِيَةِ أَوْ مَوَاضِعِ الْعَوْرَةِ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ بِأَنْ كَانَ دَاخِلَ الْفَرْجِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إلَّا الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ كَارْتِفَاعِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ عَلَى الْفِرَاشِ وَالْجُنُونِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ إثْبَاتَ كَوْنِ الْعَيْبِ فِي يَدِهِ لِلْحَالِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ إثْبَاتَ كَوْنِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ عِنْدَ الْبَيْعِ، وَالْقَبْضِ فَإِنْ أَرَادَ إثْبَاتَ كَوْنِهِ لِلْحَالِ، فَإِنْ كَانَ يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْحِسِّ وَالْعِيَانِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِنَظَرِ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيَّانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إلَّا الْأَطِبَّاءُ وَالْبَيَاطِرَةُ، فَيَثْبُتُ لِقَوْلِهِ ﷿ ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] ، وَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ فَيُسْأَلُونَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ؟ .

ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَوْلِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>