للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ، وَالْبَيْعُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ، كَذَا هَذَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرْجِعُ.

(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّدَّ امْتَنَعَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ أَوْ الْكِتَابَةَ (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ هَهُنَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَيْسَ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ بَلْ الْمِلْكُ يَنْتَهِي بِالْإِعْتَاقِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْآدَمِيِّ عَدَمُ الْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ إذْ الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْحُرَّيْنِ يَكُونُ حُرًّا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ ضَرَبَ الْمِلْكَ وَالْمَالِيَّةَ عَلَيْهِ بِعَارِضِ الْكُفْرِ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةِ الْإِعْتَاقِ، وَالْمُؤَقَّتُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ فَيَنْتَهِي الْمِلْكُ وَالْمَالِيَّةُ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَصَارَ كَمَا لَوْ انْتَهَى بِالْمَوْتِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَيْسَ بِحَبْسٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْعِوَضَ فَقَدْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي مَقَامَ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَبَقَاهُ عَلَى مِلْكِهِ فَصَارَ حَابِسًا إيَّاهُ بِفِعْلِهِ مُمْسِكًا عَنْ الرَّدِّ فَلَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَهُ أَوْ اسْتَوْلَدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ وَلَوْ قَتَلَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَتَنْتَهِي حَيَاتُهُ عِنْدَ الْقَتْلِ كَمَا تَنْتَهِي عِنْدَ الْمَوْتِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَهُنَاكَ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَذَا هَهُنَا (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فَوَاتَ الْحَيَاةِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَثَرُ فِعْلِ الْقَاتِلِ حَقِيقَةً فَهُوَ أَثَرُ فِعْلِهِ عَادَةً فَجُعِلَ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ كَأَنَّهُ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ حَقِيقَةً وَإِزَالَتُهَا وَإِنْ كَانَ انْتِهَاءً حَقِيقَةً كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْبَيْعِ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَصَارَ حَابِسًا لِلْعَبْدِ بِصُنْعِهِ مُمْسِكًا.

وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ طَعَامًا فَأَكَلَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَتَّى تَخَرَّقَ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرْجِعُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَكْلَ الطَّعَامِ وَلُبْسَ الثَّوْبِ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَأَنَّهُ انْتِفَاعٌ لَا إتْلَافٌ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ فَإِنَّهُ إزَالَةُ الْحَيَاةِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ فَكَانَ حَبْسًا وَإِمْسَاكًا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِأَكْلِ الطَّعَامِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ أَخْرَجَهُمَا عَنْ مِلْكِهِ حَقِيقَةً إذْ الْمِلْكُ فِيهِمَا ثَبَتَ مُطْلَقًا لَا مُؤَقَّتًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْقَتْلَ وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ الطَّعَامُ أَوْ الثَّوْبُ بِسَبَبٍ آخَرَ وَرَاءَ الْأَكْلِ وَاللُّبْسِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ اسْتِهْلَاكَهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ إبْطَالٌ مَحْضٌ فَيُشْبِهُ الْقَتْلَ وَلَوْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِي وَلَا أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ، وَقَدْ امْتَنَعَ رَدُّ بَعْضِهِ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَصْلًا فِي الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ، كَمَا لَوْ بَاعَ بَعْضَ الطَّعَامِ دُونَ بَعْضٍ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِأَرْشِ الْكُلِّ الْمَأْكُولِ وَالْبَاقِي إلَّا إذَا رَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا أَكَلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَبْعِيضِ الطَّعَامِ ضَرَرٌ فَيُمْكِنُ رَدُّ الْبَعْضِ فِيهِ دُونَ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ ذَلِكَ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ بَاعَ بَعْضَ الطَّعَامِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَرُدَّ الْبَاقِي وَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ إلَّا إذَا رَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ وَالرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ لِأَجْلِ الْبَيْعِ وَأَنَّهُ وُجِدَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَمْتَنِعُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ بِقَدْرِ الْمَانِعِ.

(وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَالْعَبْدِ فَالِامْتِنَاعُ فِي الْبَعْضِ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي الْكُلِّ.

وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَبَنَاهَا مَسْجِدًا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَنَاهَا مَسْجِدًا فَقَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا.

وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَكَفَّنَ بِهِ مَيِّتًا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَارِثَ الْمَيِّتِ وَقَدْ اشْتَرَى مِنْ التَّرِكَةِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْكَفَنِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْكَفَنَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْمَيِّتِ وَقَدْ امْتَنَعَ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ لَا مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا فَتَبَرَّعَ بِالْكَفَنِ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُشْتَرَى وَقَعَ لَهُ فَإِذَا كَفَّنَ بِهِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالتَّكْفِينِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

(وَمِنْهَا)

<<  <  ج: ص:  >  >>