تَرْجِيعٌ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ فِي آذَانِ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ تَرْجِيعٌ.
(وَأَمَّا) حَدِيثُ «أَبِي مَحْذُورَةَ فَقَدْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ لَمَّا أَذَّنَ وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِصَوْتَيْنِ وَمَدَّ صَوْتَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ خَفَضَ بِهِمَا صَوْتَهُ، بَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَخَافَةَ الْكُفَّارِ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّهُ كَانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْهَرُ بِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمَّا بَلَغَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ اسْتَحْيَا فَخَفَضَ بِهِمَا صَوْتَهُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعَرَكَ أُذُنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ وَقُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَمُدَّ بِهِمَا صَوْتَكَ غَيْظًا لِلْكُفَّارِ» .
(وَأَمَّا) الْإِقَامَةُ فَمَثْنَى مَثْنَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَالْأَذَانِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فُرَادَى فُرَادَى إلَّا قَوْلُهُ: " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " فَإِنَّهُ يَقُولُهَا مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، (وَاحْتَجَّا) بِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ بِلَالًا ﵁ أُمِرَ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآمِرَ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ أَتَى بِالْأَذَانِ وَمَكَثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي آخِرِهِ مَرَّتَيْنِ (قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ) ، وَرَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ " وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً "، وَإِنَّمَا تَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَثْنَى.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: كَانَ النَّاسُ يَشْفَعُونَ الْإِقَامَةَ حَتَّى خَرَجَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ فَأَفْرَدُوا الْإِقَامَةَ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ، وَأَشَارَ إلَى كَوْنِ الْإِفْرَادِ بِدْعَةً، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّفْعِ وَالْإِيتَارِ فِي حَقِّ الصَّوْتِ وَالنَّفَسِ دُونَ حَقِيقَةِ الْكَلِمَةِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) التَّثْوِيبُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي تَفْسِيرِ التَّثْوِيبِ فِي الشَّرْعِ، وَالثَّانِي - فِي الْمَحَلِّ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ، وَالثَّالِثُ - فِي وَقْتِهِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ - فَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ كَيْفَ التَّثْوِيبُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ؟ قَالَ: كَانَ التَّثْوِيبُ الْأَوَّلُ بَعْدَ الْأَذَانِ " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " فَأَحْدَثَ النَّاسُ هَذَا التَّثْوِيبَ وَهُوَ حَسَنٌ، فَسَّرَ التَّثْوِيبَ، وَبَيَّنَ وَقْتَهُ، وَلَمْ يُفَسِّرْ التَّثْوِيبَ الْمُحْدَثَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَقْتَهُ، وَفَسَّرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبَيَّنَ وَقْتَهُ فَقَالَ: التَّثْوِيبُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " مَرَّتَيْنِ - حَسَنٌ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُحْدَثًا لِأَنَّهُ أُحْدِثَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، وَوَصَفَهُ بِالْحَسَنِ لِأَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوهُ.
وَقَدْ قَالَ ﷺ: «مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ» .
(وَأَمَّا) مَحَلُّ التَّثْوِيبِ فَمَحَلُّ الْأَوَّلِ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِالتَّثْوِيبِ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَيْضًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقَدِيمِ، وَأَنْكَرَ التَّثْوِيبَ فِي الْجَدِيدِ رَأْسًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ كَوَقْتِ الْفَجْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ إعْلَامٍ كَمَا فِي وَقْتِ الْفَجْرِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَلَيْسَ فِيهَا التَّثْوِيبُ، وَكَذَا لَيْسَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ذِكْرُ التَّثْوِيبِ.
(وَلَنَا) مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ بِلَالٍ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا بِلَالُ ثَوِّبْ فِي الْفَجْرِ وَلَا تُثَوِّبْ فِي غَيْرِهَا» ، فَبَطَلَ بِهِ الْمَذْهَبَانِ جَمِيعًا، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ «بِلَالًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَا أَحْسَنَ هَذَا اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ» ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ التَّثْوِيبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " وَتَعْلِيمُ النَّبِيِّ ﷺ أَبَا مَحْذُورَةَ، وَتَعْلِيمُ الْمَلَكِ كَانَ تَعْلِيمَ أَصْلِ الْأَذَانِ لَا مَا يُذْكَرُ فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِعْلَامِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ، مَعَ أَنَّهُ ﷺ نَهَى عَنْ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَعَنْ السَّمَرِ بَعْدَهَا، فَالظَّاهِرُ هُوَ التَّيَقُّظُ.
(وَأَمَّا) التَّثْوِيبُ الْمُحْدَثُ فَمَحَلُّهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ أَيْضًا، وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، غَيْرَ أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا: لَا بَأْسَ بِالتَّثْوِيبِ الْمُحْدَثِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِفَرْطِ غَلَبَةِ الْغَفْلَةِ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا، وَشِدَّةِ رُكُونِهِمْ إلَى الدُّنْيَا، وَتَهَاوُنِهِمْ بِأُمُورِ الدِّينِ، فَصَارَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِنَا مِثْلَ الْفَجْرِ فِي زَمَانِهِمْ، فَكَانَ زِيَادَةُ الْإِعْلَامِ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَكَانَ مُسْتَحْسَنًا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ الْمُؤَذِّنُ: " السَّلَامُ عَلَيْكَ