للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ وَفِي بَيَانِ الْعَوَارِضِ الْمَانِعَةِ مِنْ الرُّجُوعِ وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الرُّجُوعِ وَحُكْمِهِ شَرْعًا.

أَمَّا ثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ فَحَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ثَابِتٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إلَّا فِيمَا يَهَبُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي مَسْأَلَةِ هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَالْوَالِدِ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» وَالْعَوْدُ فِي الْقَيْءِ حَرَامٌ كَذَا فِي الْهِبَةِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ اللُّزُومُ وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضِ خَلَلٍ فِي الْمَقْصُودِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ اكْتِسَابُ الصِّيتِ بِإِظْهَارِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ لَا طَلَبُ الْعِوَضِ فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُمَا الْعِوَضَ فَقَدْ طَلَبَ مِنْ الْعَقْدِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ طَلَبُهُ أَصْلًا.

(وَلَنَا) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَمَّا الْكِتَابُ الْعُزَيْرُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: ٨٦] وَالتَّحِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ مِنْ السَّلَامِ وَالثَّنَاءِ وَالْهَدِيَّةِ بِالْمَالِ.

(قَالَ الْقَائِلُ)

تَحِيَّتُهُمْ بِيضُ الْوَلَاءِ بِدِينِهِمْ

لَكِنْ الثَّالِثُ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ بِقَرِينَةٍ مِنْ نَفْسِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: ٨٦] لِأَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الْأَعْرَاضِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إعَادَةِ الشَّيْءِ وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْمُشْتَرَكِ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ وُجُوهِهِ بِالدَّلِيلِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثِبْ مِنْهَا» أَيْ بِعِوَضٍ جَعَلَ الْوَاهِبَ أَحَقَّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدنَا عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا وَلَمْ يَرِدْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَيَكُونَ إجْمَاعًا.

وَلِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَالِيَّ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا مِنْ هِبَةِ الْأَجَانِبِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَهَبُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إحْسَانًا إلَيْهِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِ وَقَدْ يَهَبُ لَهُ طَمَعًا فِي الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ عُرْفًا وَعَادَةً فَالْمَوْهُوبُ لَهُ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: ٦٠] وَقَالَ «مَنْ اصْطَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» وَقَالَ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَالتَّهَادِي تَفَاعُلٌ مِنْ الْهَدِيَّةِ فَيَقْتَضِي الْفِعْلَ مِنْ اثْنَيْنِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ مِنْ عَقْدٍ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ يُمْنَعُ لُزُومُهُ كَالْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالرِّضَا فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا هُوَ شَرْطُ الصِّحَّةِ فَهُوَ شَرْطُ اللُّزُومِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَقْدُ لِعَدَمِ الرِّضَا عِنْدَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ السَّلَامَةُ كَذَا هَذَا.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الرُّجُوعِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إلَّا فِيمَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَلَدِ وَلَا قَضَاءِ الْقَاضِي إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ الثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْحِلِّ مِنْ حَيْثُ الْمُرُوءَةِ وَالْخَلْفِ لَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ لِأَنَّ نَفْيَ الْحِلِّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﷿ فِي رَسُولِنَا ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ [الأحزاب: ٥٢] قِيلَ فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ لَا يَحِلُّ لَكَ مِنْ حَيْثُ الْمُرُوءَةِ وَالْخَلْفِ أَنْ تَتَزَوَّجَ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ مَا اخْتَرْنَ إيَّاكَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ الزِّينَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ إذَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِغَيْرِهِنَّ وَهَذَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّشْبِيهُ مِنْ حَيْثُ ظَاهِرِ الْقُبْحِ مُرُوءَةً وَطَبِيعَةً لَا شَرِيعَةً.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» وَفِعْلُ الْكَلْبِ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُبْحِ الطَّبِيعِيِّ كَذَا هَذَا وَقَوْلُهُ فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَخْذِهِ مَالِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَكِنَّهُ سَمَّاهُ رُجُوعًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الرُّجُوعِ مَجَازًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا حَقِيقَةً عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ حَتَّى لَا يَصِحَّ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ وَفَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ يَصِحُّ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ.

وَأَمَّا الْعَوَارِضُ الْمَانِعَةُ مِنْ الرُّجُوعِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا هَلَاكُ الْمَوْهُوبِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ فِي الْهَالِكِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ فِي قِيمَتِهِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>