أَلْحَقَ صَلَاةَ الْأَعْرَابِيِّ بِالْعَدَمِ؟ وَالصَّلَاةُ إنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهَا بِالْعَدَمِ إمَّا لِانْعِدَامِهَا أَصْلًا بِتَرْكِ الرُّكْنِ، أَوْ بِانْتِقَاصِهَا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ، فَتَصِيرُ عَدَمًا مِنْ وَجْهٍ فَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا، وَلِهَذَا يُكْرَهُ تَرْكُهَا أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَخْشَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ.
(وَمِنْهَا) الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَاظَبَ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَذَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا قَامَ دَلِيلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ، وَقَدْ قَامَ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَرَجَعَ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُّنَّةِ عَلَيْهَا إمَّا لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالسُّنَّةِ فِعْلًا، أَوْ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ أَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّلَاةِ فَوَجَبَتْ الْقَعْدَةُ فَاصِلَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا يَلِيهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) التَّشَهُّدُ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَهَذَا دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَالْتَفَتَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» ، أَمَرَنَا بِالتَّشَهُّدِ بِقَوْلِهِ: " قُولُوا "، وَنَصَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ.
(وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْأَعْرَابِيِّ إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك أَثْبَتَ تَمَامَ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَعْدَةِ.
وَلَوْ كَانَ التَّشَهُّدُ فَرْضًا لَمَا ثَبَتَ التَّمَامُ بِدُونِهِ، دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فِيمَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ، وَقَدْ قَامَ هَهُنَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْفَرْضِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ: أَيْ قَبْلَ أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَعْرُوفِ، إذْ الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ.
(وَمِنْهَا) - مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيمَا شُرِعَ مُكَرَّرًا مِنْ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ السَّجْدَةُ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَقِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ فَرَضِيَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، حَتَّى لَوْ تَرَكَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ صَلَاتِهِ سَجَدَ الْمَتْرُوكَةَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ سَاهِيًا فَوَجَبَ سُجُودُ السَّهْوِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (وَأَمَّا) الَّذِي ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ بِعَارِضٍ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: سُجُودُ السَّهْوِ، وَالْآخَرُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ.
(أَمَّا) سُجُودُ السَّهْوِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَان سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّ الْمَتْرُوكَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ سَاهِيًا هَلْ يُقْضَى أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ السُّجُودِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ عَمَلِهِ أَنَّهُ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ، وَكَذَا نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: إذَا سَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْتَمِّ أَنْ يَسْجُدَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ سُنَّةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ، حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَمَا سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.
وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَفَعَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَالْفَائِتُ مِنْ التَّطَوُّعِ كَيْفَ يُجْبَرُ بِالْوَاجِبِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى الصَّوَابِ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ، وَلْيَسْجُدْ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ» ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ.
وَعَنْ ثَوْبَانَ ﵁ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» ، فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُمَا تَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي خَبَرِهِ، وَكَذَا النَّبِيُّ ﷺ وَالصَّحَابَةُ ﵃ وَاظَبُوا عَلَيْهِ، وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ؛ وَلِأَنَّهُ شُرِعَ جَبْرًا لِنُقْصَانِ الْعِبَادَةَ فَكَانَ وَاجِبًا كَدِمَاءِ الْجَبْرِ فِي بَابِ الْحَجِّ، وَهَذَا لِأَنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ، وَلَا تَحْصُلُ صِفَةُ الْكَمَالِ إلَّا بِجَبْرِ النُّقْصَانِ فَكَانَ وَاجِبًا ضَرُورَةً، إذْ لَا حُصُولَ لِلْوَاجِبِ إلَّا بِهِ، إلَّا أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ لَا لِأَنَّ السُّجُودَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ السُّجُودَ وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْقَعْدَةِ، فَالْعَوْدُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ رَافِعًا لِلْقَعْدَةِ