لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ سَمَاعِ كَلَامِ الْآخَرِ وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي حَالَ غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَضَاءٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ سَمَاعِ كَلَامِ الْآخَرِ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ قَالَ اللَّهُ ﵎ جَلَّ شَأْنُهُ ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [ص: ٢٦] «وَقَالَ ﵊ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَقْضِي وَأَنْتَ حَاضِرٌ بَيْننَا؟ فَقَالَ ﵊ اقْضِ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ» وَالْحَقُّ اسْمٌ لِلْكَائِنِ الثَّابِتِ.
وَلَا ثُبُوتَ مَعَ احْتِمَالِ الْعَدَمِ وَاحْتِمَالُ الْعَدَمِ ثَابِتٌ فِي الْبَيِّنَةِ لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ فَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ حُكْمًا بِالْحَقِّ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْحُكْمُ بِهَا أَصْلًا إلَّا أَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ وَلَمْ يَظْهَرْ حَالَةَ الْغَيْبَةِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ ثُمَّ إنَّمَا لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا عَلَى الْغَائِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْحَاضِرِ حَقِيقَةً وَمَعْنًى وَالْخَصْمُ الْحَاضِرُ الْوَكِيلُ وَالْوَصِيُّ وَالْوَارِثُ وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ اتِّصَالٌ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ وَالْوَصِيَّ نَائِبَانِ عَنْهُ بِصَرِيحِ النِّيَابَةِ وَالْوَارِثُ نَائِبٌ عَنْهُ شَرْعًا وَحَضْرَةُ النَّائِبِ كَحَضْرَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مَعْنًى.
وَكَذَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ اتِّصَالٌ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْغَائِبِ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يَصِيرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّهِ ثُبُوتُ حَقِّ الْغَائِبِ فَكَانَ الْكُلُّ حَقَّ الْحَاضِرِ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الشَّيْءِ كَانَ مُلْحَقًا بِهِ فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْحَاضِرِ حَتَّى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ أَخُوهُ وَلَمْ يَدَّعِ مِيرَاثًا وَلَا نَفَقَةً لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ دَعْوَى عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إثْبَاتَ نَسَبِهِ مِنْ أَبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأُمِّهِ وَهُمَا غَائِبَانِ وَلَيْسَ عَنْهُمَا خَصْمٌ حَاضِرٌ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِنَابَةُ وَلَا حَقٌّ يَقْضِي بِهِ عَلَى الْوَارِثِ لِيَكُونَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَائِبِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ تَبَعًا لَهُ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ أَصْلًا وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مِيرَاثًا أَوْ نَفَقَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ دَعْوَى حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْحَاضِرِ وَهُوَ الْمَالُ وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ نَسَبِهِ مِنْ الْغَائِبِ فَيُنَصَّبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ تَبَعًا لَهُ وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالنَّسَبِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فَكَانَ دَعْوَى عَلَى الْحَاضِرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْأُخُوَّةِ وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ الْمُخَمَّسَةُ وَتَوَابِعُهَا عَلَى مَا نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْهَا عَدَمُ التَّنَاقُضِ فِي الدَّعْوَى وَهُوَ أَنْ لَا يَسْبِقَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَاقِضُهُ وَيُنَافِيهِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِرَجُلٍ فَأَمَرَ الْقَاضِي بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهَا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ لِلْحَالِ يَمْنَعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ مُنَاقِضًا لِلْإِقْرَارِ وَالْإِقْرَارُ يُنَاقِضُهُ فَلَا يَصِحُّ وَكَذَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ هَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمِلْكِ لِفُلَانٍ لَا يَمْنَعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ التَّنَاقُضِ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَلَوْ قَالَ هَذَا لِفُلَانٍ اشْتَرَيْته مِنْهُ تُسْمَعُ مِنْهُ مَوْصُولًا قَالَ ذَلِكَ أَوْ مَفْصُولًا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ الدَّعْوَى بَلْ سَبَقَ مِنْهُ مَا يُقَرِّرُهَا لِأَنَّ سَابِقَةَ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ شَرْطُ تَحَقُّقِ الشِّرَاءِ مِنْهُ.
وَلَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ مَوْصُولًا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ دَعْوَاهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَصِحُّ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ مَفْصُولًا لَا تَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ لِفُلَانٍ إقْرَارٌ مِنْهُ بِكَوْنِهِ مِلْكًا لِفُلَانٍ فِي الْحَالِ فَهَذَا يُنَاقِضُ دَعْوَى الشِّرَاءِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ كَوْنَهُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَصِحُّ كَمَا إذَا قَالَ مَفْصُولًا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْته مِنْهُ مَوْصُولًا مَعْنَاهُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ أَنَّهُ كَانَ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ قَالَ اللَّهُ ﷿ ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٢٦] أَيْ إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا إذْ لَمْ يَكُونُوا قَلِيلًا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لَهُ وَلَا عَادَةَ جَرَتْ بِذَلِكَ فِي الْمَفْصُولِ فَحُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ بِحَقِيقَتِهِ مُنَاقَضَةٌ فَلَا تُسْمَعُ هَذَا إذَا بَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بَعْدَهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِانْعِدَامِ التَّنَاقُضِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute