للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْكَذِبَ، وَلَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ إلَّا بِالْعَدَالَةِ، وَاحْتَجَّ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» .

(وَلَنَا) عُمُومَاتُ قَوْله تَعَالَى ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وَقَوْلِهِ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَالْفَاسِقُ شَاهِدٌ لِقَوْلِهِ ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] قَسَّمَ الشُّهُودَ إلَى مَرْضِيِّينَ وَغَيْرِ مَرْضِيِّينَ، فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ غَيْرِ الْمَرْضِيِّ - وَهُوَ الْفَاسِقُ - شَاهِدًا؛ وَلِأَنَّ حَضْرَةَ الشُّهُودِ فِي بَابِ النِّكَاحِ لِدَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا - لَا لِلْحَاجَةِ إلَى شَهَادَتِهِمْ عِنْدَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ؛؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَشْتَهِرُ بَعْدَ وُقُوعِهِ - فَيُمْكِنُ دَفْعُ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ، وَالتُّهْمَةُ تَنْدَفِعُ بِحَضْرَةِ الْفَاسِقِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِمْ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الرُّكْنُ فِي الشَّهَادَةِ هُوَ صِدْقُ الشَّاهِدِ " فَنَعَمْ، لَكِنَّ الصِّدْقَ لَا يَقِفُ عَلَى الْعَدَالَةِ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ مِنْ الْفَسَقَةِ مَنْ لَا يُبَالِي بِارْتِكَابِهِ أَنْوَاعًا مِنْ الْفِسْقِ، وَيَسْتَنْكِفُ عَنْ الْكَذِبِ، وَالْكَلَامُ فِي فَاسِقٍ تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ - لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ عِنْدَنَا.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ نَقَلَةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَنْ يَثْبُتَ، فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ جَعْلُ الْعَدَالَةِ صِفَةً لِلشَّاهِدِ؛؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، بَلْ هَذَا إضَافَةُ الشَّاهِدَيْنِ إلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُقَابِلَيْ كَلِمَةِ الْعَدْلِ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَالْفَاسِقُ مُسْلِمٌ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ عِنْدَنَا وَهُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاحْتَجَّ بِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْفِسْقُ بِالْقَذْفِ، وَقَدْ زَالَ بِالتَّوْبَةِ.

(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ [النور: ٤] " الْآيَةَ " نَهَى عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الرَّامِي عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَتَنَاوَلُ زَمَانَ مَا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا فَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَبِمِثْلِهِ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إذَا قَذَفَ حُرًّا ثُمَّ حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ، ثُمَّ عَتَقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، وَإِنْ أُعْتِقَ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ تُوجِبُ بُطْلَانَ شَهَادَةٍ كَانَتْ لِلْقَاذِفِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ وَالثَّابِتُ لِلذِّمِّيِّ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَتَبْطُلُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِذَا أَسْلَمَ فَقَدْ حَدَثَتْ لَهُ بِالْإِسْلَامِ شَهَادَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ، وَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ،؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ لِتَبْطُلَ بِالْحَدِّ فَتُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَبُولُ شَهَادَتِهِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ لَهُ عَدَالَةَ الْإِسْلَامِ، وَالْحَدُّ أَبْطَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلَوْ ضُرِبَ الذِّمِّيُّ بَعْضَ الْحَدِّ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ ضُرِبَ الْبَاقِيَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ تُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا يَكُونُ الْبَعْضُ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَتَجَزَّأُ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فَقَالَ فِي رِوَايَةٍ " لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ "، وَفِي رِوَايَةٍ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ ضُرِبَ سَوْطًا وَاحِدًا فِي الْإِسْلَامِ؛؛ لِأَنَّ السِّيَاطَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَوَقَّفَ كَوْنُهَا حَدًّا عَلَى وُجُودِ السَّوْطِ الْأَخِيرِ، وَقَدْ وُجِدَ كَمَالُ الْحَدِّ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ اُعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ: إنْ وُجِدَ أَكْثَرُ الْحَدِّ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ وَإِلَّا، فَلَا؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي الشَّرْعِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ اسْمٌ لِلْكُلِّ، وَعِنْدَ ضَرْبِ السَّوْطِ الْأَخِيرِ تَبَيَّنَ أَنَّ السِّيَاطَ كُلَّهَا كَانَتْ حَدًّا، وَلَمْ يُوجَدْ الْكُلُّ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، بَلْ الْبَعْضُ فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْحَادِثَةُ بِالْإِسْلَامِ، هَذَا إذَا شَهِدَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَبَعْدَ التَّوْبَةِ، فَأَمَّا إذَا شَهِدَ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ شَهِدَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ شَهِدَ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَقَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ فَهِيَ مَسْأَلَةُ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَقَدْ مَرَّتْ.

وَأَمَّا النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ فَيَنْعَقِدُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ؛ فَلِأَنَّ لَهُ شَهَادَةً أَدَاءً، فَكَانَتْ لَهُ شَهَادَةٌ سَمَاعًا، وَأَمَّا عِنْدَنَا؛ فَلِأَنَّ حَضْرَةَ الشُّهُودِ لَدَى النِّكَاحِ لَيْسَتْ لِدَفْعِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ، بَلْ لِرَفْعِ رِيبَةِ الزِّنَا وَالتُّهْمَةِ بِهِ، وَذَا يُجْعَلُ بِحَضْرَةِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ، فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِلنَّهْيِ عَنْ الْقَبُولِ، وَالِانْعِقَادُ يَنْفَصِلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>