سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّشَهُّدِ كَمَا حَمَلْتُمْ السَّلَامَ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي قَوْلِهِ ﷺ: وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ أَيْ فَتَشَهَّدْ، وَيُرَجَّحُ مَا رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْمَعْنَى إيَّاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّجْدَةَ إنَّمَا يُؤْتَى بِهَا جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْجَابِرُ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِ النَّقْصِ لَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْإِتْيَانُ بِالسَّجْدَةِ بَعْدَ السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْجَابِرِ لَا فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ، وَالْإِتْيَانُ بِهَا قَبْلَ السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْجَابِرِ فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ فَكَانَ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ جَبْرَ النُّقْصَانِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَ قِيَامِ الْأَصْلِ، وَبِالسَّلَامِ الْقَاطِعِ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةَ يَفُوتُ الْأَصْلُ فَلَا يُتَصَوَّرُ جَبْرُ النُّقْصَانِ بِالسُّجُودِ بَعْدَهُ.
(وَاحْتَجَّ) مَالِكٌ بِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَامَ فِي مَثْنَى مِنْ صَلَاتِهِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ سَهْوًا فِي نُقْصَانٍ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَكَانَ سَهْوًا فِي الزِّيَادَةِ؛ وَلِأَنَّ السَّهْوَ إذَا كَانَ نُقْصَانًا فَالْحَاجَةُ إلَى الْجَابِرِ، فَيُؤْتَى بِهِ فِي مَحِلِّ النُّقْصَانِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ زِيَادَةً فَتَحْصِيلُ السَّجْدَةِ قَبْلَ السَّلَامِ يُوجِبُ زِيَادَةً أُخْرَى فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يُوجِبُ رَفْعَ شَيْءٍ، فَيُؤَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ السَّلَامِ.
وَلَنَا حَدِيثُ ثَوْبَانَ ﵁ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.
وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ﵃ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ﵃، وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إلَى الصَّوَابِ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ» ؛ وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ أُخِّرَ عَنْ مَحَلِّ النُّقْصَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِمَعْنًى، ذَلِكَ الْمَعْنَى يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ عَنْ السَّلَامِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهُ هُنَاكَ ثُمَّ سَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً يَحْتَاجُ إلَى أَدَائِهِ فِي كُلِّ مَحِلٍّ، وَتَكْرَارُ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَأُخِّرَ إلَى وَقْتِ السَّلَامِ احْتِرَازًا عَنْ التَّكْرَارِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ أَيْضًا عَنْ السَّلَامِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ سَهَا عَنْ السَّهْوِ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ؛ وَلِأَنَّ إدْخَالَ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهَا، فَلَوْ أَتَى بِالسُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَصِيرَ الْجَابِرُ لِلنُّقْصَانِ مُوجِبًا زِيَادَةَ نَقْصٍ وَذَا غَيْرُ صَوَابٍ.
(وَأَمَّا) الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِالْأَحَادِيثِ فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الْفِعْلِ مُتَعَارِضَةٌ فَبَقِيَ لَنَا رِوَايَةُ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ، أَوْ تَرَجَّحَ مَا ذَكَرْنَا لِمُعَاضَدَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى إيَّاهُ، أَوْ يُوَفَّقُ فَيُحْمَلُ مَا رَوَيْنَا عَلَى أَنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ وَلَا مَحْمَلَ لَهُ سَوَاءٌ فَكَانَ مُحْكَمًا، وَمَا رَوَاهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الثَّانِي، فَكَانَ مُتَشَابِهًا فَيُصْرَفُ إلَى مُوَافَقَةِ الْمُحْكَمِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَخِيرِ لَا قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ رَدًّا لِلْمُحْتَمَلِ إلَى الْمُحْكَمِ وَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ نَقَصَ أَوْ زَادَ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ نُقْصَانًا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سَهَا مَرَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالزِّيَادَةِ وَالْأُخْرَى بِالنُّقْصَانِ مَاذَا يَفْعَلُ؟ وَتَكْرَارُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَلْزَمَ مَالِكًا بَيْنَ يَدَيْ الْخَلِيفَةِ بِهَذَا الْفَصْلِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ زَادَ وَنَقَصَ كَيْف يَصْنَعُ؟ فَتَحَيَّرَ مَالِكٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ أَحَدِ مَعْنَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْجَابِرَ يَحْصُلُ فِي مَحَلِّ الْجَبْرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهِ فِي مَحَلِّ الْجَبْرِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ يُؤَخَّرُ عَنْهُ لِمَعْنًى يُوجِبُ التَّأْخِيرَ عَنْ السَّلَامِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْجَبْرَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا حَالَ قِيَامِ أَصْلِ الصَّلَاةِ فَنَعَمْ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ سَلَامَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ قَاطِعٌ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ أَصْلًا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجَبْرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَقْطَعُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ أَوْ يَقْطَعُهَا ثُمَّ يَعُودُ بِالْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجَبْرِ، وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ مَحَلَّهُ الْمَسْنُونَ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ الثَّانِي يُسَلِّمُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَعُودُ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَيَأْتِي بِالدَّعَوَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَاخْتِيَارُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَأْتِي بِالدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ وَهُوَ سُجُودُ السَّهْوِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَرَاغُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute