للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَجُلًا، أَوْ رَآهُ يَقْتُلُ إنْسَانًا، وَهُوَ قَاضٍ فِي الْبَلَدِ الَّذِي قُلِّدَ قَضَاءَهَا، جَازَ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ يَقْضِي بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، فِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ فِي الْكُلِّ، وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ فِي الْكُلِّ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ جَازَ لَهُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ، لَمْ يَبْقَ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ الثَّانِي، أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعِلْمُ بِحُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَقَدْ عُلِمَ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ لَا يَخْتَلِفُ.

(وَلَنَا) أَنَّهُ جَازَ لَهُ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ، فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ عَيْنُهَا، بَلْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَعِلْمُهُ الْحَاصِلُ بِالْمُعَايَنَةِ، أَقْوَى مِنْ عِلْمِهِ الْحَاصِلِ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالشَّهَادَةِ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ الظَّنِّ، وَالْحَاصِلُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ عِلْمُ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ، فَكَانَ هَذَا أَقْوَى، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا، وَلَيْسَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فِيهَا الِاكْتِفَاءُ بِعِلْمِ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي وَضْعِ الشَّيْءِ، هِيَ الْبَيِّنَةُ الَّتِي تَتَكَلَّمُ بِهَا، وَمَعْنَى الْبَيِّنَةِ وَإِنْ وُجِدَ، فَقَدْ فَاتَتْ صُورَتُهَا، وَفَوَاتُ الصُّورَةِ يُورِثُ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُحْتَاطُ فِي إسْقَاطِهَا، وَكَذَا حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِشُبْهَةِ فَوَاتِ الصُّورَةِ، هَذَا إذَا قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ، فَأَمَّا إذَا قَضَى بِعِلْمٍ، اسْتَفَادَهُ فِي غَيْرِ زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ، أَوْ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَلَدِ، الَّذِي وَلِي قَضَاءَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، فَأَمَّا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ فَلَا يَجُوزُ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ قَبْلَ زَمَنِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا اسْتَدَامَ الْعِلْمُ، الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ، بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ، وَهُنَاكَ حَدَثَ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ؛ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ التُّهْمَةِ، وَالشُّبْهَةُ تُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ الْحَادِثَ لَهُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ عِلْمٌ فِي وَقْتٍ هُوَ مُكَلَّفٌ فِيهِ بِالْقَضَاءِ، فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ فِيهِ، وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَضَاءِ عِلْمٌ فِي وَقْتٍ هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فِيهِ بِالْقَضَاءِ، فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ فِيهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ الْقَضَاءِ هُوَ الْبَيِّنَةُ، إلَّا أَنَّ غَيْرَهَا قَدْ يَلْحَقُ بِهَا؛ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، وَالْعِلْمُ الْحَادِثُ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ - فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ - يَكُونُ حَادِثًا فِي وَقْتٍ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالْقَضَاءِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، وَالْحَاصِلُ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ، أَوْ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى مَكَانِهِ، حَاصِلٌ فِي وَقْتٍ هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالْقَضَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِهِ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ.

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِكِتَابِ الْقَاضِي، فَنَقُولُ: لِقَبُولِ الْكِتَابِ مِنْ الْقَاضِي شَرَائِطُ، مِنْهَا: الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ كِتَابُهُ، فَتَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَى أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي، وَيَذْكُرُوا اسْمَهُ وَنَسَبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كِتَابُهُ بِدُونِهِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا، وَيَشْهَدُوا عَلَى أَنَّ هَذَا خَتْمُهُ؛ لِصِيَانَتِهِ عَنْ الْخَلَلِ فِيهِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ، بِأَنْ يَقُولُوا: إنَّهُ قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الشَّهَادَةِ بِالْخَتْمِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ تُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا فِي جَوْفِهِ تُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْخَاتَمِ، بِأَنْ قَالُوا: لَمْ يُشْهِدْنَا عَلَى الْخَاتَمِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ الْكِتَابُ مَخْتُومًا أَصْلًا، لِأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ حُصُولُ الْعِلْمِ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، بِأَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي، وَهَذَا يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْنَا.

وَلَهُمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ، لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِمَا فِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الشَّهَادَةِ بِمَا فِيهِ؛ لِتَكُونَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَبَيْنَ الْقَاضِي الْكَاتِبِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ، فَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِكِتَابِ الْقَاضِي أَمْرٌ جُوِّزَ

لِحَاجَةِ

النَّاسِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى غَائِبٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَصْمٍ حَاضِرٍ، لَكِنْ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ - الَّتِي لَا حَاجَةَ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهَا عِنْدَ الدَّعْوَى - وَالشَّهَادَةِ، كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ.

وَأَمَّا فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهَا، كَالْمَنْقُولِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ، لَا تُقْبَلُ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -

<<  <  ج: ص:  >  >>