للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ إلَى الْمُشَاوِرَةِ بِقَوْلِهِ ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] مَعَ انْفِتَاحِ بَابِ الْوَحْيِ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْهُ» .

وَرُوِيَ أَنَّهُ «كَانَ يَقُولُ لِسَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ، وَسَيِّدِنَا عُمَرَ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قُولَا، فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا» ؛ وَلِأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ بَابِ الْمُجَاهَدَةِ فِي اللَّهِ ﷿ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩] .

وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْلِسَ مَعَهُ مَنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ؛ لِئَلَّا يَضِنَّ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، بَلْ يَهْدِيهِ إلَى ذَلِكَ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَهُمْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ، وَالنَّاسُ يَتَّهِمُونَهُ بِالْجَهْلِ، وَلَكِنْ يُقِيمُ النَّاسَ عَنْ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ يُشَاوِرُهُمْ، أَوْ يَكْتُبُ فِي رُقْعَةٍ فَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ، أَوْ يُكَلِّمُهُمْ بِلُغَةٍ لَا يَفْهَمُهَا الْخَصْمَانِ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي لَا يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِإِجْلَاسِهِمْ عِنْدَهُ، وَلَا يَعْجِزُ عَنْ الْكَلَامِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ لَا يُجْلِسُهُمْ، فَإِنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ؛ بَعَثَ إلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ، وَمِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ جِلْوَازٌ - وَهُوَ الْمُسَمَّى بِصَاحِبِ الْمَجْلِسِ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا - يَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْقَاضِي؛ لِتَهْذِيبِ الْمَجْلِسِ، وَبِيَدِهِ سَوْطٌ يُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ، وَيُنْذِرُ بِهِ الْمُؤْمِنَ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَمْسِكُ بِيَدِهِ سَوْطًا، يُنْذِرُ بِهِ الْمُؤْمِنَ، وَيُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ» .

وَكَانَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ يَمْسِكُ سَوْطًا، وَسَيِّدُنَا عُمَرُ اتَّخَذَ دِرَّةً وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَعْوَانٌ، يَسْتَحْضِرُونَ الْخُصُومَ، وَيَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ إجْلَالًا لَهُ؛ لِيَكُونَ مَجْلِسًا مَهِيبًا، وَيُذْعِنُ الْمُتَمَرِّدُ لِلْحَقِّ، وَهَذَا فِي زَمَانِنَا، فَأَمَّا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَا كَانَ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إلَى الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ بِعَيْنِ التَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيَخَافُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لِلْحَقِّ بِدُونِ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ كَانَ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا فَرَغَ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَتَوَسَّدَ بِالْحَصَى، وَمَا كَانَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ حُرْمَتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا، فَازْدَادَتْ أَكْمَامُهُ عَنْ أَصَابِعِهِ؛ فَدَعَا بِالشَّفْرَةِ فَقَطَعَهُمَا، وَكَانَ لَا يَكْفِهِمَا أَيَّامًا، وَكَانَتْ الْأَطْرَافُ مُتَعَلِّقَةً مِنْهَا، وَالنَّاسُ يَهَابُونَهُ غَايَةَ الْمَهَابَةِ.

فَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ فَسَدَ الزَّمَانُ، وَتَغَيَّرَ النَّاسُ؛ فَهَانَ الْعِلْمُ وَأَهْلُهُ، فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ؛ لِلتَّوَسُّلِ إلَى إحْيَاءِ الْحَقِّ، وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ تُرْجُمَانٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقَاضِي لُغَتَهُ، مِنْ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالشُّهُودِ، وَالْكَلَامُ فِي عَدَدِ التُّرْجُمَانِ وَصِفَاتِهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، كَالْكَلَامِ فِي عَدَدِ الْمُزَكَّى وَصِفَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنْهَا أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُحَافَظَةِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَالْإِقْرَارَاتِ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إلَى كَاتِبٍ يَسْتَعِينُ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ، أَمَّا الْعِفَّةُ وَالصَّلَاحُ؛ فَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَمَانَةِ، وَالْأَمَانَةُ لَا يُؤَدِّيهَا إلَّا الْعَفِيفُ الصَّالِحُ.

وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ؛ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى شَهَادَتِهِ.

وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِالْفِقْهِ؛ فَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاخْتِصَارِ وَالْحَذْفِ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ، وَالنَّقْلِ مِنْ لُغَةٍ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا كَتَبَ كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ كَمَا سَمِعَهُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ لِئَلَّا يُوجِبَ حَقًّا لَمْ يَجِبْ، وَلَا يُسْقِطَ حَقًّا وَاجِبًا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ غَيْرِ الْفَقِيهِ بِتَفْسِيرِ الْكَلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْعِدَ الْكَاتِبَ حَيْثُ يَرَى مَا يَكْتُبُ وَمَا يَصْنَعُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ، ثُمَّ فِي عُرْفِ بِلَادِنَا يُقَدِّمُ كِتَابَةَ الدَّعْوَى عَلَى الدَّعْوَى، فَيَكْتُبُ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ التَّارِيخِ بَيَاضًا؛ لِجَوَازِ أَنْ تَتَخَلَّفَ الدَّعْوَى عَنْ وَقْتِ الْكِتَابَةِ، وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ الْجَوَابِ أَيْضًا بَيَاضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُقِرُّ أَوْ يُنْكِرُ، وَيَكْتُبُ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ - إنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ - وَيَتْرُكُ بَيْنَ كُلِّ شَاهِدَيْنِ بَيَاضًا؛ لِيَكْتُبَ الْقَاضِي التَّارِيخَ، وَجَوَابَ الْخَصْمِ، وَشَهَادَةَ الشُّهُودِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَطْوِي الْكَاتِبُ الْكِتَابَ وَيَخْتِمُهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ عَلَى ظَهْرِهِ: خُصُومَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَعَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، فِي شَهْرِ كَذَا، فِي سَنَةِ كَذَا، وَيَجْعَلُهُ فِي قِمْطَرَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ لِخُصُومَاتِ كُلِّ شَهْرٍ قِمْطَرًا عَلَى حِدَةٍ؛ لِيَكُونَ أَبْصَرَ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ بِنَفْسِهِ عَلَى بِطَاقَةٍ، أَوْ يَسْتَكْتِبُ الْكِتَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَبْعَثُهَا إلَى الْمُعَدِّلِ سِرًّا - وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَسْتُورَةِ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا - وَالْأَفْضَلُ أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>