بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ - لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالزِّنَا، وَالْبَيَانُ لَا يَتَنَاهَى إلَّا بِالصَّرِيحِ وَالْكِتَابَةِ - وَالْإِشَارَةُ بِمَنْزِلَةِ - الْكِتَابَةِ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَأَمَّا الْبَصَرُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْأَعْمَى فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا كَالْبَصِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَمْنَعُ مُبَاشَرَةَ سَبَبِ وُجُوبِهَا، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ الرَّقِيقِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَرْأَةِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ، وَعِنْدَ زُفَرَ ﵀ لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْحُدُودِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى، وَالْكَلَامُ فِي التَّصْدِيقِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا: عَدَدُ الْأَرْبَعِ فِي حَدِّ الزِّنَا خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُكْتَفَى بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي الشَّرْعِ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَهُوَ الْمَعْنَى عِنْدَ التَّكْرَارِ وَالتَّوَحُّدِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْخَبَرُ لَا يَزِيدُ رُجْحَانًا بِالتَّكْرَارِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، بِخِلَافِ عَدَدِ الْمُثَنَّى فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ زِيَادَةَ ظَنٍّ عَلَيْهِ فِيهَا، إلَّا أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ الْأَرْبَعِ فِي بَابِ الزِّنَا تَعَبُّدٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعِ التَّعَبُّدِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْقِيَاسَ مَا قَالَهُ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ﵊ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، هَكَذَا إلَى الْأَرْبَعِ، فَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مَرَّةً مُظْهِرًا لِلْحَدِّ لَمَا أَخَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى الْأَرْبَعِ» ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ مَا ظَهَرَ وُجُوبُهُ لِلْإِمَامِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ.
(وَأَمَّا) الْعَدَدُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ﵀: لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ﵀: إنَّهُ كُلَّمَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ فَعَدَدُ الْإِقْرَارِ فِيهِ كَعَدَدِ الشُّهُودِ وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ ﵀: إنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ مَرَّتَيْنِ فِي مَكَانَيْنِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَحَدِّ الزِّنَا، فَتَلْزَمُ مُرَاعَاةُ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ كَمَا فِي الزِّنَا، إلَّا أَنَّهُ يُكْتَفَى هَهُنَا بِالْمَرَّتَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ الْأَرْبَعُ هُنَاكَ اسْتِدْلَالًا بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ وَالشُّرْبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِنِصْفِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا؛ وَهُوَ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ، وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ التَّكْرَارُ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إخْبَارٌ وَالْمُخْبَرُ لَا يَزْدَادُ بِتَكْرَارِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا عَدَدَ الْأَرْبَعِ فِي بَابِ الزِّنَا بِنَصٍّ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَمِنْهَا عَدَدُ الْمَجَالِسِ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَجَالِسَ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْقَاضِي أَوْ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ ﵊ اعْتَبَرَ اخْتِلَافَ مَجَالِسِ مَاعِزٍ، حَيْثُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَعُودُ وَمَجْلِسُهُ ﵊ لَمْ يَخْتَلِفْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَفْسِيرِ اخْتِلَافِ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ: هُوَ أَنْ يُقِرَّ مَرَّةً، ثُمَّ يَذْهَبُ حَتَّى يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِ الْقَاضِي، ثُمَّ يَجِيءُ فَيُقِرُّ ثُمَّ يَذْهَبُ، هَكَذَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِهِ - لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ مَاعِزٍ كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَلَوْ أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُقِرًّا فَالشَّهَادَةُ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْإِقْرَارِ لَا لِلشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَالْإِنْكَارُ مِنْهُ رُجُوعٌ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ ﷿ صَحِيحٌ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا الصِّحَّةُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ حَتَّى لَوْ كَانَ سَكْرَانَ - لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ فَلِأَنَّ السَّكْرَانَ: مَنْ صَارَ بِالشُّرْبِ إلَى حَالٍ لَا يَعْقِلُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا فَكَانَ عَقْلُهُ زَائِلًا مَسْتُورًا حَقِيقَةً.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا؛ فَلِأَنَّهُ إذَا غَلَبَ الْهَذَيَانُ عَلَى كَلَامِهِ؛ فَقَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ الْعَقْلِ، وَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ، وَلِلْعَبْدِ حَقٌّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ؛ فَيَصِحُّ مَعَ السُّكْرِ كَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا صَحَّا فَإِنْ دَامَ عَلَى إقْرَارِهِ - تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ كُلُّهَا، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَالْإِنْكَارُ مِنْهُ رُجُوعٌ فَيَصِحُّ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الزِّنَا مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ كَالْمَجْبُوبِ - لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ؛ لِانْعِدَامِ