للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَيْنَ مَا إذَا تَلَا السَّجْدَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ السُّجُودُ فِي الْحَالَيْنِ.

وَأَمَّا فِي حَقِّ السَّامِعِ فَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالُوا: يَلْزَمُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَهِمَ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ جَائِزَةٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي: إنْ كَانَ السَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَعَلَيْهِ السَّجْدَةُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ الْفَارِسِيَّةَ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ سَوَاءٌ فُهِمَ أَوْ لَمْ يُفْهَمْ كَمَا لَوْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ وَإِنْ فُهِمَ.

اجْتَمَعَ سَبَبَا الْوُجُوبِ وَهُمَا: التِّلَاوَةُ، وَالسَّمَاعُ بِأَنْ تَلَا السَّجْدَةَ ثُمَّ سَمِعَهَا، أَوْ سَمِعَهَا ثُمَّ تَلَاهَا أَوْ تَكَرَّرَ أَحَدُهُمَا فَنَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ السَّجْدَةَ لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ، أَوْ التِّلَاوَةُ، أَوْ السَّمَاعُ حَتَّى أَنَّ مَنْ تَلَا آيَةً وَاحِدَةً مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ فَيَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهَ كَانَ يَسْمَعُ وَيَتَلَقَّنُ ثُمَّ يَقْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَكَانَ لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ مُعَلِّمِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ الْآيَةَ مِرَارًا وَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُ آيَةَ السَّجْدَةِ حِينَ كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ وَكَانَ لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةَ وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ جَامِعٌ لِلْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ السَّجْدَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إيقَاعٌ فِي الْحَرَجِ لِكَوْنِ الْمُعَلِّمِينَ مُبْتَلِينَ بِتَكْرَارِ الْآيَةِ لِتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ السَّجْدَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتِّلَاوَةِ وَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ لِلتِّلَاوَةِ فَأَمَّا التَّكْرَارُ فَلَمْ يَكُنْ لِحَقِّ التِّلَاوَةِ بَلْ لِلتَّحَفُّظِ أَوْ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَلَا تَعَلُّقَ لِوُجُوبِ السَّجْدَةِ بِهِ فَجُعِلَ الْإِجْرَاءُ عَلَى اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِ فَالْتَحَقَ بِمَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ، كَذَا عَلَّلَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ.

(وَأَمَّا) الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ بِأَنْ ذَكَرَهُ أَوْ سَمِعَ ذِكْرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكُتُبِ وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ قِيَاسًا عَلَى السَّجْدَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِقَوْلِهِ «لَا تَجْفُونِي بَعْدَ مَوْتِي فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ نَجْفُوَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنْ أُذْكَرَ فِي مَوْضِعٍ فَلَا يُصَلَّى عَلَيَّ» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّ رَسُولِ اللَّهِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَتَدَاخَلُ، وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إنَّ مَنْ عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي لِلسَّامِعِ أَنْ يُشَمِّتَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَاطِسِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لَا يُشَمِّتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَاطِسِ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ: قُمْ فَانْتَثِرْ فَإِنَّكَ مَزْكُومٌ.

(ثُمَّ) لَا فَرْقَ هَهُنَا بَيْنَ مَا إذَا تَلَا مِرَارًا ثُمَّ سَجَدَ وَبَيْنَ مَا إذَا تَلَا وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَا بَعْدَ ذَلِكَ مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا زَنَى مِرَارًا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ زَنَى مَرَّةً ثُمَّ حُدَّ ثُمَّ زَنَى مَرَّةً أُخْرَى يُحَدُّ ثَانِيًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ تَكَرَّرَ السَّبَبُ لِمُسَاوَاةِ كُلِّ فِعْلٍ الْأَوَّلَ فِي الْمَأْثَمِ، وَالْقُبْحِ وَفَسَادِ الْفِرَاشِ، وَكُلِّ مَعْنًى صَارَ بِهِ الْأَوَّلُ سَبَبًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ جُعِلَ ذَلِكَ حُكْمًا لِكُلِّ سَبَبٍ فَجُعِلَ بِكَمَالِهِ حُكْمًا لِهَذَا وَحُكْمًا لِذَاكَ وَجُعِلَ كَأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِحُصُولِ مَا شُرِعَ لَهُ الْحَدُّ وَهُوَ الزَّجْرُ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا وُجِدَ الزِّنَا بَعْدَ ذَلِكَ انْعَقَدَ سَبَبًا كَاَلَّذِي تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ حُكْمِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَهُنَا السَّبَبُ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَمْ يَتَكَرَّرْ السَّبَبُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَبَدَّلُ بِتَخَلُّلِ السَّجْدَةِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ التَّخَلُّلِ لِحُصُولِ الثَّانِيَةِ بِحَقِّ التَّأَمُّلِ وَالتَّحَفُّظِ فِي الْحَالَيْنِ.

وَكَذَا السَّامِعُ لَتِلْكَ التِّلَاوَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهَا فِي حَقِّهِ جُعِلَ غَيْرَ سَبَبٍ بَلْ تَبَعًا لِلتَّأَمُّلِ وَالْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ يُفِيدُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي الْإِعَانَةَ عَلَى الْحِفْظِ وَالتَّدَبُّرِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعَ إنْسَانٌ آخَرُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ أَوْ الرَّابِعَةَ وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَوَّلَ مَا سَمِعَ حَيْثُ تَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ تِلَاوَةٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ جُعِلَتْ سَاقِطَةً

<<  <  ج: ص:  >  >>