يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ، وَهُمْ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَالرِّسَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ - وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الشَّهَادَةِ أَصْلًا.
فَإِذَا أَقَرُّوا بِهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ إيمَانِهِمْ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ كَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا - أَيَّتَهُمَا كَانَتْ - دَلَالَةَ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الثَّالِثِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ مُنْكِرَ الرِّسَالَةِ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهَا دَلِيلَ الْإِيمَانِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الرَّابِعِ فَأَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي عَلَيْهِ؛ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُقِرُّ بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ؛ ﷺ لَكِنَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ بُعِثَ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِدُونِ التَّبَرُّؤِ دَلِيلًا عَلَى إيمَانِهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ: أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ قَالَ: آمَنْتُ أَوْ: أَسْلَمْتُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَمُسْلِمُونَ، وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هُوَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ: أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ بِهِ إنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ تَرْكَ الْيَهُودِيَّةِ، أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالدُّخُولَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: أَسْلَمْتُ أَنِّي عَلَى الْحَقِّ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عَنْ دِينِي لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ قَالَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَتَبَرَّأُ عَنْ الْيَهُودِيَّةِ، أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَالتَّبَرُّؤِ عَنْ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة، لَا يَكُونُ دَلِيلَ الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَبَرَّأَ عَنْ ذَلِكَ، وَدَخَلَ فِي دِينٍ آخَرَ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَصْلُحُ التَّبَرُّؤُ دَلِيلَ الْإِيمَانِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ أَقَرَّ مَعَ ذَلِكَ فَقَالَ: دَخَلْتُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ حُكِمَ بِالْإِسْلَامِ؛ لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَنَحْوُ أَنْ يُصَلِّيَ كِتَابِيٌّ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي جَمَاعَةٍ، وَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ﵀ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ﵀ إنَّ الصَّلَاةَ لَوْ صَلَحَتْ دَلَالَةَ الْإِيمَانِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ حَالِ الِانْفِرَادِ، وَبَيْنَ حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فَعَلَى ذَلِكَ إذَا صَلَّى بِجَمَاعَةٍ.
(وَلَنَا) أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الَّتِي نُصَلِّيهَا الْيَوْمَ، لَمْ تَكُنْ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ فَكَانَتْ دَلَالَةً عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِشَرِيعَتِنَا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ﵀ أَنَّهُ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ دَلِيلُ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِهِ ﵊ «مَنْ شَهِدَ جِنَازَتَنَا، وَصَلَّى إلَى قِبْلَتِنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَذَّنَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَنَا أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ دَلِيلَ قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ تَلَقَّنَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقِيقَةً، إذْ لَا كُلُّ مَنْ يَعْلَمُ شَيْئًا يُؤْمِنُ بِهِ، كَالْمُعَانِدِينَ مِنْ الْكَفَرَةِ، وَلَوْ حَجَّ هَلْ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ قَالُوا: يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ تَهَيَّأَ لِلْإِحْرَامِ، وَلَبَّى وَشَهِدَ الْمَنَاسِكَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ، لَمْ تَكُنْ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَتِنَا، فَكَانَتْ دَلَالَةَ الْإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ.
وَإِنْ لَبَّى وَلَمْ يَشْهَدْ الْمَنَاسِكَ، أَوْ شَهِدَ الْمَنَاسِكَ، وَلَمْ يُلَبِّ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عِبَادَةً فِي شَرِيعَتِنَا إلَّا بِالْأَدَاءِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَالْأَدَاءُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ يُصَلِّي سَنَةً، وَمَا قَالَا: رَأَيْنَاهُ يُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ وَهُوَ يَقُولُ: صَلَّيْتُ صَلَوَاتِي لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ أَيْضًا، فَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ الْمُطْلَقَةُ دَلَالَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ: رَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَشَهِدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute