بِحُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» .
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى زَمَانِ جَوَازِ وُرُودِ النَّسْخِ، وَهُوَ حَالُ حَيَاةِ النَّبِيِّ؛ ﵊ لِانْعِدَامِ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَيَاتِهِ ﵊ لِئَلَّا يَكُونَ الْإِنْزَالُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَسَى؛ لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَقَدْ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ ﵊ لِخُرُوجِ الْأَحْكَامِ عَنْ احْتِمَالِ النَّسْخِ بِوَفَاتِهِ.
ﷺ وَإِذَا جَازَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ﷾ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، فَأَيُّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالذِّمَّةِ فُعِلَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ ﷾ الْمَشْرُوعُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ، لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَالْأَرْضُ لَهُمْ، وَهِيَ عُشْرِيَّةٍ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَيَضَعُ عَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ صَارَتْ عُشْرِيَّةٍ، هَذَا إذَا كَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ﷾.
فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ (إمَّا) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ، بِأَنْ قَالُوا: عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ لِرَجُلٍ سَمَّوْهُ (وَإِمَّا) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَهُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ، غَيْرُ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ، جَازَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، اسْتَنْزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ رِجَالُهُمْ، وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ، وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةً» فَقَدْ اسْتَصْوَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حُكْمَهُ، حَيْثُ أَخْبَرَ ﵊ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ ﷾ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ ﷾ لَا يَكُونُ إلَّا صَوَابًا.
وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِرَدِّهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ حَكَمَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِمَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّهُمْ بِالرَّدِّ يَصِيرُونَ حَرْبِيِّينَ لَنَا، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَانَ فَاسِقًا، أَوْ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ، لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ ﵀ أَنَّ الْفَاسِقَ يَصْلُحُ قَاضِيًا، فَيَصْلُحُ حَكَمًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا يَصْلُحُ حَكَمًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَصْلُحْ قَاضِيًا، وَكَذَا الْفَاسِقُ لَا يَصْلُحُ حَكَمًا وَإِنْ صَلَحَ قَاضِيًا، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ، وَلِهَذَا لَوْ رُفِعَتْ قَضِيَّةٌ إلَى قَاضٍ آخَرَ، إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا جَازَ حُكْمُهُ فِي الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ، وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ، فَاخْتَارُوا رَجُلًا فَإِنْ كَانَ مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ جَازَ حُكْمُهُ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْضِعٍ لِلْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلًا مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا أَبْلَغَهُمْ الْإِمَامُ مَأْمَنَهُمْ؛ لِأَنَّ النُّزُولَ كَانَ عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ حُكْمُ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ، فَإِذَا لَمْ يَخْتَارُوا فَقَدْ بَقُوا فِي يَدِ الْإِمَامِ بِالْأَمَانِ، فَيَرُدُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُمْ إلَى حِصْنٍ هُوَ أَحْصَنُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَا إلَى حَدٍّ يَمْتَنِعُونَ بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ إلَى الْمَأْمَنِ لِلتَّحَرُّجِ عَنْ تَوَهُّمِ الْعُذْرِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالرَّدِّ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي الرَّدِّ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعَيِّنَ رَجُلًا صَالِحًا لِلْحُكْمِ فِيهِمْ، أَوْ يَحْكُمَ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُمْ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
وَالثَّانِي، الْمُوَادَعَةُ وَهِيَ: الْمُعَاهَدَةُ وَالصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ يُقَالُ: تَوَادَعَ الْفَرِيقَانِ أَيَّ تَعَاهَدَا عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَالْكَلَامُ فِي الْمُوَادَعَةِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَشَرْطِهَا، وَحُكْمِهَا، وَصِفَتِهَا، وَمَا يُنْتَقَضُ بِهِ أَمَّا رُكْنُهَا: فَهُوَ لَفْظَةُ الْمُوَادَعَةِ، أَوْ الْمُسَالَمَةِ، أَوْ الْمُصَالَحَةِ، أَوْ الْمُعَاهَدَةِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَشَرْطُهَا الضَّرُورَةُ، وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِعْدَادِ الْقِتَالِ، بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا فِي حَالٍ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى قَالَ اللَّهُ ﵎ ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥] .
وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ ﵎ ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٦١] وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ عَشْرَ سِنِينَ وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ، حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ الْإِمَامُ، أَوْ فَرِيقٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةً