عَمَّا خَصَّهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، سُمِّيَ نَفْلًا لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يُسْهَمُ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالتَّنْفِيلُ هُوَ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْغُزَاةِ بِالزِّيَادَةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ رُبْعُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ أَوْ قَالَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا أَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أَوْ قَالَ لِسَرِيَّةٍ: مَا أَصَبْتُمْ فَلَكُمْ رُبْعُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ قَالَ: فَهُوَ لَكُمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ.
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ [الأنفال: ٦٥] إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ؛ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ قَطْعُ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَنْ النَّفْلِ أَصْلًا، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَفَعَلَهُ مَعَ سَرِيَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيَجُوزُ التَّنْفِيلُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالسَّلَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ يَتَحَقَّقُ فِي الْكُلِّ، وَالسَّلَبُ هُوَ ثِيَابُ الْمَقْتُولِ وَسِلَاحُهُ الَّذِي مَعَهُ، وَدَابَّتُهُ الَّتِي رَكِبَهَا بِسَرْجِهَا وَآلَاتِهَا، وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ مَالٍ فِي حَقِيبَةٍ عَلَى الدَّابَّةِ، أَوْ عَلَى وَسَطِهِ.
(وَأَمَّا) حَقِيبَةُ غُلَامِهِ، وَمَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ مِنْ دَابَّةٍ أُخْرَى، فَلَيْسَ بِسَلَبٍ وَلَوْ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ رَجُلٍ كَانَ السَّلَبُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَدَأَ أَحَدُهُمَا فَضَرَبَهُ، ثُمَّ أَجْهَزَهُ الْآخَرُ بِأَنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ الْأُولَى قَدْ أَثْخَنَتْهُ وَصَيَّرَتْهُ إلَى حَالٍ لَا يُقَاتِلُ وَلَا يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ فَالسَّلَبُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْأَوَّلِ.
وَإِنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ الْأُولَى لَمْ تُصَيِّرْهُ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَالسَّلَبُ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الثَّانِي وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ قَتِيلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَلْ يَدْخُلُ الْإِمَامُ فِي التَّنْفِيلِ؟ إنْ قَالَ: فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْكُمْ لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ خَصَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: مِنْكُمْ يَدْخُلْ؛ لِأَنَّهُ عَمَّ الْكَلَامَ، هَذَا إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ، فَإِنْ لَمْ يُنَفِّلْ شَيْئًا، فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْغُزَاةِ قَتِيلًا لَمْ يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ قَتَلَهُ مُدْبِرًا مُنْهَزِمًا لَمْ يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا يَخْتَصُّ بِسَلَبِهِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَذَا مِنْهُ ﵊» نَصْبُ الشَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا فَقَدْ قَتَلَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَخْتَصُّ بِالسَّلَبِ، وَإِذَا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا مُنْهَزِمًا فَإِنَّمَا قَتَلَهُ بِقُوَّةِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ السَّلَبُ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً.
(وَلَنَا) أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّنْفِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ بِالْمُصَابِ مِنْ السَّلَبِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ إنْ كَانَ هُوَ الْجِهَادَ وُجِدَ مِنْ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الِاسْتِيلَاءَ وَالْإِصَابَةَ، وَالْأَخْذُ بِذَلِكَ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْكُلِّ فَيَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ لِلْكُلِّ، فَتَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالتَّنْفِيلِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ قَطْعِ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ ﵎: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ [الأنفال: ٦٥] وَالتَّنْفِيلُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ بِإِطْمَاعِ زِيَادَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ زِيَادَةُ غِنًى وَفَضْلُ شَجَاعَةٍ، لَا يَرْضَى طَبْعُهُ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ، وَتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ، إلَّا بِإِطْمَاعِ زِيَادَةٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَإِذَا لَمْ يَطْمَعْ لَا يَظْهَرُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَصَبَ ذَلِكَ الْقَوْلَ شَرْعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَصَبَهُ شَرْطًا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَفَّلَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، مَعَ الِاحْتِمَالِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ ﵊ «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ أَبُو حَنِيفَةَ حُجَّةً لِمِلْكِ الْأَرْضِ الْمُحْيَاةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لِمِثْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) شَرْطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حُصُولِ الْغَنِيمَةِ فِي يَدِ الْغَانِمِينَ، فَإِذَا حَصَلَتْ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَا نَفْلَ؛ لِأَنَّ جَوَازَ التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ، وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا قَبْلَ أَخْذِ الْغَنِيمَةِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَفَّلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ» فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ ﵊ إنَّمَا نَفَّلَ مِنْ الْخُمْسِ، أَوْ مِنْ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الْغَنَائِمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه - تَعَالَى - عَلَيْهِ، فَسَمَّاهُ الرَّاوِي غَنِيمَةً وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ التَّنْفِيلِ فَنَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ النَّفْلِ بِالْمُنَفَّلِ حَتَّى لَا يُشَارِكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهَلْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؟ فَفِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ - شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا خُمْسَ فِي النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ فِي غَنِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَالنَّفَلُ مَا أَخْلَصَهُ الْإِمَامُ لِصَاحِبِهِ، وَقَطَعَ شَرِكَةَ الْأَغْيَارِ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ وَيُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ لَهُ الْغُزَاةَ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ مَا أَصَابُوا؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ أَوْ الْجِهَادَ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْكُلِّ، إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ خَصَّ الْبَعْضَ بِبَعْضِهَا، وَقَطَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ عَنْهُ، فَبَقِيَ حَقُّ الْكُلِّ مُتَعَلِّقًا بِمَا وَرَاءَهُ فَيُشَارِكُهُمْ فِيهِ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.