للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَرْكُ الْمَفْرُوضِ لِأَجَلِهِ، وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى لَا تَرْكًا لَهُ، وَلِأَنَّ الْمُفَادَاةَ بِالْمَالِ إعَانَةٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْحِرَابِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: مَعْنَى الْإِعَانَةِ لَا يَحْصُلُ مِنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى مِنْهُ وَلَدٌ فَجَازَ فِدَاؤُهُ بِالْمَالِ، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ: إنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ الرَّأْيُ وَالْمَشُورَةُ وَتَكْثِيرُ السَّوَادِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد: ٤] فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] .

وَقَوْلِهِ ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] الْآيَةَ لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ مُحَمَّدٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فِيمَنْ مُنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَسْرِهِمْ عَلَى أَنْ يَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ بِأَهْلِ خَيْبَرَ، أَوْ ذِمَّةً كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بِأَهْلِ السَّوَادِ، وَيُسْتَرَقُّونَ.

(وَأَمَّا) أَسَارَى بَدْرٍ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْوَحْيَ فَعُوتِبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨] حَتَّى قَالَ «لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ نَارًا مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ » يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧] عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ التَّأْوِيلِ أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدَاءَ فِي الْأَسَارَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ حَتَّى يَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ مَنَعَةً عَنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ بِهَا، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لِيَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ؛ إذْ لَوْ أَطْلَقَهُمْ لَرَجَعُوا إلَى الْمَنَعَةِ، وَصَارُوا حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْغَلَبَةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُفَادَاةَ كَانَتْ جَائِزَةً ثُمَّ انْتَسَخَتْ بِقَوْلِهِ ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ﴾ [الأنفال: ١٢] ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] .

وَإِنَّمَا عُوتِبَ ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] لَا لِخَطَرِ الْمُفَادَاةِ، بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَظِرْ بُلُوغَ الْوَحْيِ، وَعَمِلَ بِاجْتِهَادِهِ، أَيْ لَوْلَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا عَلَى الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ، لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ بِالْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ، وَتَرْكِكُمْ انْتِظَارَ الْوَحْيِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَكَذَا لَا تَجُوزُ مُفَادَاةُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى إعَانَتِهِمْ عَلَى الْحَرْبِ، وَتَجُوزُ مُفَادَاةُ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهَا إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ، وَلَا يُفَادُونَ بِالسِّلَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجُوزُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ إنْقَاذَ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إهْلَاكِ الْكَافِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ فُرِضَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥] وقَوْله تَعَالَى ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ﴾ [الأنفال: ١٢] فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ إقَامَةُ الْفَرْضِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَرْكًا مَعْنًى، وَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمُفَادَاةِ، وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فِيمَنْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا إعَانَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلَا تَجُوزُ بَعْدَهَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالْحَقُّ ثَابِتٌ، ثُمَّ قِيَامُ الْحَقِّ لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ، فَكَذَا قِيَامُ الْمِلْكِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُفَادَاةَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَصْلِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إنَّمَا الثَّابِتُ حَقٌّ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْإِبْطَالِ بِالْمُفَادَاةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ الْأَسَارَى، وَيُؤْخَذَ بَدَلَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ كَمْ مِنْ وَاحِدٍ يَغْلِبُ اثْنَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْحَرْبِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِذَا عَزَمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَتْلِ الْأَسَارَى، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُمْ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْذِيبٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ «لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ، وَحَرَّ السِّلَاحِ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِهِمْ؛» لِقَوْلِهِ فِي وَصَايَا الْأُمَرَاءِ «وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَ صَاحِبِهِ» ؛ لِأَنَّهُ لَهُ ضَرْبُ اخْتِصَاصٍ بِهِ حَيْثُ أَخَذَهُ وَأَسَرَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، كَمَا لَوْ الْتَقَطَ شَيْئًا وَالْأَفْضَلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>