للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ، كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ إعْتَاقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ «قَالَ فِي جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ لِلْحَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَمَنْ ادَّعَى التَّأَخُّرَ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ لِلْحَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ لِلْحَالِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ لِلْحَالِ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ عِتْقٍ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقْوِيمِ، وَيَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ لَيْسَا بِمَالٍ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا.

وَلَوْ دَبَغَهُ الْغَاصِبُ وَصَارَ مَالًا فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ خَمْرًا لِمُسْلِمٍ أَوْ خِنْزِيرًا لَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ، فَلَا يَضْمَنَانِ بِالْغَصْبِ.

وَلَوْ غَصَبَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْلِمًا غَيْرَ أَنَّ الْغَاصِبَ إنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَعَلَيْهِ فِي الْخَمْرِ مِثْلُهَا، وَفِي الْخِنْزِيرِ قِيمَتُهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَى غَاصِبِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً لِقَوْلِهِ فِي صِفَةِ الْخُمُورِ أَنَّهُ: ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة: ٩٠] وَصِفَةُ الْمَحَلِّ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّخْصِ وَقَوْلُهُ : «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لَعَيْنِهَا» أَخْبَرَ كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً وَجَعَلَ عِلَّةَ حُرْمَتِهَا عَيْنَهَا، فَتَدُورُ الْحُرْمَةُ مَعَ الْعَيْنِ، وَإِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَا تَكُونُ مَالًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً، مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ.

(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «فَأَعْلِمُوهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِلْمُسْلِمِ الضَّمَانُ إذَا غُصِبَ مِنْهُ خَلُّهُ وَشَاتُه وَنَحْوُ ذَلِكَ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلذِّمِّيِّ الضَّمَانُ إذَا غُصِبَ مِنْهُ خَمْرُهُ أَوْ خِنْزِيرُهُ؛ لِيَكُونَ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى: فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: الْخَمْرُ مُبَاحٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ، فَالْخَمْرُ فِي حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا، وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ فِي حَقِّنَا فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ شَرْعًا.

فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ، وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ الْبَقَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْبَقَاءِ هُوَ الْإِطْلَاقُ، إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ تَثْبُتُ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، أَوْ مَعْقُول الْمَعْنَى لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ هَاهُنَا، أَوْ يُوجَدُ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١] لِأَنَّ الصَّدَّ لَا يُوجَدُ فِي الْكَفَرَةِ، وَالْعَدَاوَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَلِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْهَلَاكِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ، فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِمْ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ، كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَى هَذَا طَرِيقُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ:.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَمْرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْحَالِ فَهِيَ بِعَرَضِ أَنْ تَصِيرَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الثَّانِي بِالتَّخَلُّلِ وَالتَّخْلِيلُ، وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَحَلِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ لِلْحَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُهْرَ وَالْجَحْشَ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي الْحَالِ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعْنَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِالْمَنْعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ، وَقَدْ دَانُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ فَلَزِمَنَا تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَبَقِيَ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافُ يُفْضِي إلَى التَّعَرُّضِ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا غَصَبَ أَوْ أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ مَنْعُهُمْ وَتَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ خَمْرٌ غَصَبَهَا ذِمِّيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ فَهَلَكَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَوْ خَلَّلَهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا يَضْمَنُ خَلًّا مِثْلَهَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ حِينَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْغَاصِبِ صُنْعٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ، فَلَا يَضْمَنُ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>