وَمَعَانِيهَا الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، وَفِي بَعْضِهَا إنْ بَقِيَتْ الصُّورَةُ فَقَدْ فَاتَ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَادَةً، فَكَانَ فِعْلُهُ اسْتِهْلَاكًا لِلْمَغْصُوبِ صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى فَيَبْطُلُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، إذْ الْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ كَالْهَالِكِ الْحَقِيقِيِّ، وَلِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ يَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى فِي الْهَالِكِ، كَمَا فِي الْهَالِكِ الْحَقِيقِيِّ، فَتَنْقَطِعُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةً، وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةَ لِلْمَالِكِ لِوُقُوعِهِ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ أَوْ إضْرَارًا بِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ الْمَغْصُوبِ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالضَّمَانِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ فِي الْمَضْمُونِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ عَلَى مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ مُبَاحٌ لَا حَظَرَ فِيهِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ لَبَنًا أَوْ آجِرًا أَوْ سَاجَةً فَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ عِنْدَنَا، وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ﵀ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ الْمَعْهُودِ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ مَحْظُورٌ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، لِكَوْنِ الْمِلْكِ نِعْمَةً وَكَرَامَةً فَالْتَحَقَ فِعْلُهُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَبَقِيَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، كَمَا كَانَ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالْإِدْخَالِ فِي الْبِنَاءِ وَالتَّرْكِيبِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ الْمَنْفَعَةِ، إذْ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمُرَكَّبِ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْمُفْرَدِ، فَصَارَ بِهَا تَبَعًا لَهُ، فَكَانَ الْإِدْخَالُ إهْلَاكًا مَعْنًى فَيُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ يَتَضَرَّرُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ، وَالْمَالِكُ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ أَيْضًا لَكِنْ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، فَكَانَ ضَرَرُ الْغَاصِبِ أَعْلَى، فَكَانَ أَوْلَى بِالدَّفْعِ، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ بَطْنَ نَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، كَذَا هَذَا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ ﵀ أَنَّ مَوْضُوعَ مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ مَا إذَا بَنَى الْغَاصِبُ فِي حَوَالِي السَّاجَةِ لَا عَلَى السَّاجَةِ، فَأَمَّا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَالِكِ، بَلْ يُنْقَضُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرِ الْهِنْدُوَانِيُّ ﵀؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ، لَمْ يَكُنْ الْغَاصِبُ مُتَعَدِّيًا بِالْبِنَاءِ لِيُنْقَضَ إزَالَةً لِلتَّعَدِّي.
وَإِذَا كَانَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا كَانَ مُتَعَدِّيًا عَلَى السَّاجَةِ، فَيُزَالُ تَعَدِّيهِ بِالنَّقْضِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَ مَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ السَّاجَةِ، إلَّا بِنَقْضِ الْبِنَاءِ وَلُزُومِ ضَرَرٍ مُعْتَبَرٍ، هَذَا مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الرَّدُّ بِدُونِ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ، وَلَوْ بِيعَتْ الدَّارُ فِي حَيَاةِ الْغَاصِبِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَانَ صَاحِبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي الثَّمَن، فَلَا يَكُونُ أَخَصَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ، فَبَطَلَ اخْتِصَاصُهُ بِالْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ خُوصًا فَجَعَلَهُ زِنْبِيلًا لَا سَبِيلَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّاجَةِ إذَا جَعَلَهَا بِنَاءً، وَلَوْ غَصَبَ نَخْلَةً فَشَقَّهَا فَجَعَلَهَا جُذُوعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجُذُوعَ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ قَائِمَةٌ.
وَإِنَّمَا فَرَّقَ الْأَجْزَاءَ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ إذَا قَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا أَوْ غَرْسَ فِيهَا لَا يَنْقَطِعُ مِلْكُ الْمَالِكِ، وَيُقَالُ لِلْغَاصِبِ أَقْلِعْ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا فَارِغَةً؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ بِحَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تَصِرْ شَيْئًا آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَتَرَكَّبْ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا جَاوَرَهَا الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِخِلَافِ السَّاجَةِ؛ لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ وَصَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُسَمِّي الْكُلَّ بِنَاءً وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا، وَيَكُونُ لَهُ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَتَضَرَّرُ بِالْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ، وَالْمَالِكُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِنُقْصَانِ مِلْكِهِ، فَلَزِمَ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، وَلَوْ غَصَبَ تِبْرَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَصَاغَهُ إنَاءً، أَوْ ضَرَبَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا يُعْطِيَهُ شَيْئًا لِأَجْلِ الصِّيَاغَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ وَفِي قَوْلِهِمَا لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُ مَا غَصَبَ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا سَبَكَهُ وَلَمْ يَصُغْهُ، أَوْ جَعَلَهُ مُرَبَّعًا أَوْ مُطَوَّلًا أَوْ مُدَوَّرًا أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ صُنْعَ الْغَاصِبِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالصِّيَاغَةِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا غَصَبَ حَدِيدًا فَاتَّخَذَهُ سَيْفًا أَوْ سِكِّينًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اسْتِهْلَاكَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَوْضُوعَةً لَهُ مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةَ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَا اسْتَحْدَثَ الصَّنْعَةَ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الِاسْتِهْلَاكُ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَوْ غَصَبَ صُفْرًا أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ آنِيَةً يُنْظَرُ إنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute