للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَيَبْرَأُ إمَّا بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ، أَوْ بِشَرِيطَةِ رِضَا مَنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ، أَوْ الْقَضَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا.

وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ ضَمَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَسَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَتْ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً كَمَا كَانَتْ، وَإِذَا هَلَكَتْ ضَمِنَ.

(وَلَنَا) أَنَّ الْعَيْنَ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ هَذَا إبْرَاءً عَنْ الضَّمَانِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ، كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَلَوْ أَجَّلَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ بِبَدَلِ الْغَصْبِ صَحَّ التَّأْجِيلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالًا بِالْقَرْضِ.

(وَلَنَا) أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي الْقَرْضِ لِكَوْنِهِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِعَارَةِ لِمَا بُيِّنَ فِي كِتَابِ الْقَرْضِ، وَالْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ فِي الْعَوَارِيّ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْغَصْبِ فَيَلْزَمُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ لُزُومُ التَّأْجِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ الدَّيْنُ، إلَّا أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي بَابِ الْقَرْضِ لِضَرُورَةِ الْإِعَارَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا فَيَلْزَمُ عَلَى الْأَصْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُون فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ أَنَّهُ سَبَبٌ أَمْ لَا، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ.

(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا : يَثْبُتُ إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلثُّبُوتِ ابْتِدَاءً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَثْبُتُ أَصْلًا، حَتَّى أَنَّ مَنْ غَصَبَ عَبْدًا وَاكْتَسَبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ وَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ فَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ مِلْكٌ لِلْمَالِكِ، وَلَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ وَعَجَزَ عَنْ رَدِّهِ إلَى الْمَالِكِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ انْتَظَرَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَنْتَظِرْ وَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ، وَلَوْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ أَخَذَ صَاحِبُهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِ نَفْسِهِ الَّتِي سَمَّاهَا وَرَضِيَ بِهَا، أَوْ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ، أَوْ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَأْخُذُ عَبْدَهُ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مُدَبَّرًا يَعُودُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ.

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَالِكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَالْغَصْبُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ، وَالْمِلْكُ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَلَا يُسْتَفَادُ بِالْمَحْظُورِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يُقَابِلُ الْعَيْنَ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الْيَدَ الْفَائِتَةَ، فَلَا تُمْلَكُ بِهِ الْعَيْنُ، كَمَا فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ.

(وَلَنَا) أَنَّ مِلْكَ الْغَاصِبِ يَزُولُ عَنْ الضَّمَانِ، فَلَوْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْمَضْمُونِ لَمْ يَكُنْ الِاعْتِدَاءُ بِالْمِثْلِ، وَلِأَنَّهُ إذَا زَالَ مِلْكُ الْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ وَأَنَّهُ بَدَلُ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ وَمَلَكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ لَوْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ الْمَغْصُوبِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَإِذَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْ الْمَغْصُوبِ فَالْغَاصِبُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى مَالٍ قَابِلٍ لَلْمِلْكِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ، فَيَمْلِكُهُ كَمَا يَمْلِكُ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِمَا، وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ مَا هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَا حَظْرَ فِيهِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ، لَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحِلِّ التَّمَلُّكَ ابْتِدَاءً، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ بِأَنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ وَبِيَمِينِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ، ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْمَأْخُوذِ وَتَرَكَ الْعَبْدَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْمَأْخُوذَ وَأَخَذَ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بَعْضُ بَدَلِ الْعَيْنِ لَا كُلُّهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ بِكَمَالِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِرْدَادَ الْعَبْدِ، فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الْعَبْدَ، حَتَّى يَأْخُذَ الْقِيمَةَ.

وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَبْلَ رَدِّ الْقِيمَةِ لَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْ الْغَاصِبِ فَضْلَ الْقِيمَةِ إنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى مَا أَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى الْقِيمَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْعَبْدُ وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِمَّا قَالَهُ الْغَاصِبُ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ مَا قَالَ الْغَاصِبُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَلَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا فَصَّلَ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ بِهَذَا الْبَدَلِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَثْبَتَ الْخِيَارَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ فَادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ التَّضْمِينِ، وَادَّعَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَهُ، كَانَ الْجَصَّاصُ يَقُولُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ صَحَّ فَلَا يَفْسَخُ الشَّكُّ.

(وَأَمَّا) وَقْتُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ: فَهُوَ وَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الضَّمَانِ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْغَصْبِ.

فَكَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>