كَانَا أَجَازَا أَنْ يَرْكَعَ عَنْ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ.
وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَقَدْ وُجِدَ التَّعْظِيمُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمَ لَهُ بِالرُّكُوعِ لَيْسَا بِأَدْوَنَ مِنْ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا حَاجَةَ هُنَا إلَى السُّجُودِ لِعَيْنِهِ بَلْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مُخَالَفَةً لِمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ تَعْظِيمِهِ أَوْ اقْتِدَاءً بِمَنْ خَضَعَ لَهُ وَأَذْعَنَ لِرُبُوبِيَّتِهِ وَاعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَقَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي بِالرُّكُوعِ حَسَبَ حُصُولِهَا بِالسُّجُودِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَكَعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ مَكَانَ السُّجُودِ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ لَا لِمَكَانِ أَنَّ الرُّكُوعَ أَدْوَنُ مِنْ السُّجُودِ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَمْ يُجْعَلْ عِبَادَةً يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى إذْ انْفَرَدَ عَنْ تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَالسُّجُودُ جُعِلَ عِبَادَةً بِدُونِ تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذَلِكَ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ تَحْرِيمَةُ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ الرُّكُوعُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ التَّعْظِيمُ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ اللَّذَانِ وَجَبَا بِالتِّلَاوَةِ، بِخِلَافِ السَّجْدَةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا رَكَعَ مَكَانَ السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ عَيْنُ السَّجْدَةِ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ مَقَامَهَا، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقَلُّبِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ اللَّيِّنَةِ وَالْمَفَاصِلِ السَّلِيمَةِ.
وَبِالرُّكُوعِ لَا يَحْصُلُ شُكْرُ حَالَةِ السُّجُودِ فَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِعَيْنِ السُّجُودِ لَا بِمَا يُوَازِيهِ فِي كَوْنِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَمَّا هَهُنَا فَبِخِلَافِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَرْكَعْ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى الرُّكُوعَ عَنْ السَّجْدَةِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ مُضَيَّقًا؛ لِأَنَّهَا لِوُجُوبِهَا بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُوجِبُ حُصُولُهَا فِيهَا نُقْصَانًا مَا فِيهَا، وَتَحْصِيلُ مَا لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا إنْ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَهَا يُوجِبْ نَقْصًا، وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَوْ تَرَكَ أَدَاءَهَا فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهَا لَا بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَمَبْنَى أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَنْ يُؤَدَّى كُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا فِي مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ فَكَذَا هَذِهِ وَإِذَا لَمْ تُؤَدَّ فِي مَحَلِّهَا حَتَّى فَاتَ صَارَ دَيْنًا، وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الدَّيْنُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَصِرْ دَيْنًا بَعْدُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ هُنَاكَ إلَى التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ وَقَدْ وُجِدَ فَيُكْتَفَى بِذَلِكَ كَدَاخِلِ الْمَسْجِدِ إذَا اشْتَغَلَ بِالْفَرْضِ نَابَ ذَلِكَ مَنَابَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِحُصُولِ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ، وَالْمُعْتَكِفِ فِي رَمَضَانَ إذَا صَامَ عَنْ رَمَضَانَ وَكَانَ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا عَنْ صَوْمٍ هُوَ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَعْبَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ فَاعْتَكَفَ لَا يَنُوبُ ذَلِكَ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، وَالدَّيْنُ يُؤَدَّى بِمَا هُوَ لَهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا بِمَا عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى مَضَى يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَدَّاهَا بِوُضُوءٍ حَصَلَ بِقَصْدِ التَّبَرُّدِ حَيْثُ يَجُوزُ، وَلَا يُقَالُ: أَنَّ الْوُضُوءَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ بِالْفَوَاتِ عَنْ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ يُؤَدَّى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ أَوْ فَاتَتْهُ فَرِيضَةٌ عَنْ وَقْتِهَا فَأَدَّاهَا بِوُضُوءٍ حَصَلَ لِلتَّبَرُّدِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ جَازَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوُضُوءُ شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَصِرْ بِفَوَاتِهِ عَنْ مَحَلِّهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ بَقِيَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ عِبَادَةٍ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ الْأَهْلِيَّةِ لِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِ وَقَدْ حَصَلَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَأَمَّا السَّجْدَةُ وَالصَّوْمُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا فَاتَا عَنْ الْمَحَلِّ وَوَجَبَا صَارَا حَقَّيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا بِمَا عَلَيْهِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَتْ السَّجْدَةُ عَنْ مَحَلِّهَا فِي الصَّلَاةِ وَصَارَتْ بِمَحَلِّ الْقَضَاءِ فَرَكَعَ يَنْوِي بِهِ قَضَاءَ السَّجْدَةِ الْفَائِتَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ حَصَلَ الرُّكُوعُ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ فِيهَا مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّه تَعَالَى وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَدْرُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً فِي الشَّرِيعَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ فَمَا أَمْكَنَنَا جَعْلُهُ قُرْبَةً فَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ التَّعْظِيمُ بِخِلَافِ السَّجْدَةِ فَإِنَّهَا عُرِفَتْ قُرْبَةً فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا الَّذِي تَكُونُ فِيهِ وَلِهَذَا يَنْجَبِرُ بِهَا النَّقْصُ الْمُتَمَكِّنُ فِي الصَّلَاةِ بِطَرِيقِ السَّهْوِ وَلَا يَنْجَبِرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute