لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ إنْ انْقَطَعَ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُسْتَوْدَعِ لَكِنْ فِيهِ خَبَثٌ فَيُمْنَعُ مِنْ الصَّرْفِ فِيهِ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ كُرَّانِ اغْتَصَبَ رَجُلٌ أَحَدَهُمَا، أَوْ سَرَقَهُ، ثُمَّ إنَّ الْمَالِكَ أَوْدَعَ الْغَاصِبَ، أَوْ السَّارِقَ ذَلِكَ الْآخَرَ فَخَلَطَهُ بِكُرِّ الْغَصْبِ ثُمَّ ضَاعَ ذَلِكَ كُلُّهُ ضَمِنَ كُرَّ الْغَصْبِ، وَلَمْ يَضْمَنْ كُرَّ الْوَدِيعَةِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ مِلْكَهُ بِمِلْكِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ وَبَقِيَ الْكُرُّ الْمَضْمُونُ وَكُرُّ الْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِمَا فَصَارَ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا قَبْلَ الْخَلْطِ، وَلَوْ خَلَطَ الْغَاصِبُ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ مِثْلَهَا وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِالْخَلْطِ.
وَإِنْ مَاتَ كَانَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا وَصَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، وَلَوْ اخْتَلَطَتْ دَرَاهِمُ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، فَلَا يَضْمَنُ وَهُوَ شَرِيكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ هَلَاكٌ، وَلَيْسَ بِإِهْلَاكٍ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ بِنَفْسِهَا وَصَارَا شَرِيكَيْنِ لِاخْتِلَاطِ الْمِلْكَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ وَلَوْ صَبَّ مَاءً فِي طَعَامٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ فَأَفْسَدَهُ وَزَادَ فِي كَيْلِهِ فَلِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَصُبَّ فِيهِ الْمَاءَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ طَعَامًا مِثْلَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ كَيْلِهِ قَبْلَ صَبِّ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَبَّ مَاءً فِي دُهْنٍ، أَوْ زَيْتٍ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ الطَّعَامِ الْمَبْلُولِ وَالدُّهْنِ الْمَصْبُوبِ فِيهِ الْمَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ كَيْلِ الطَّعَامِ قَبْلَ صَبِّ الْمَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ غَصْبٌ مُتَقَدِّمٌ، حَتَّى لَوْ غَصَبَ ثُمَّ صَبَّ، فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ مِنْهُ وَضَاعَ لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِهِمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ ﵀: يَضْمَنُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: إنْ طَارَ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ ضَمِنَ، وَإِنْ مَكَثَ سَاعَةً، ثُمَّ طَارَ لَا يَضْمَنُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَقَعَ إتْلَافًا لِلطَّيْرِ تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّ الطَّيَرَانَ لِلطَّيْرِ طَبْعٌ لَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَطِيرُ إذَا وَجَدَ الْمُخَلِّصَ، فَكَانَ الْفَتْحُ إتْلَافًا لَهُ تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ، كَمَا إذَا شَقَّ زِقَّ إنْسَانٍ فِيهِ دُهْنٌ مَائِعٌ فَسَالَ وَهَلَكَ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ﵀ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: إذَا مَكَثَ سَاعَةً لَمْ يَكُنْ الطَّيَرَانُ بَعْدَ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى الْفَتْحِ، بَلْ إلَى اخْتِيَارِهِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَتْحَ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا (أَمَّا) الْمُبَاشَرَةُ فَظَاهِرَةُ الِانْتِفَاءِ.
(وَأَمَّا) التَّسْبِيبُ فَلِأَنَّ الطَّيْرَ مُخْتَارٌ فِي الطَّيَرَانِ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ وَكُلُّ حَيٍّ لَهُ اخْتِيَارٌ، فَكَانَ الطَّيَرَانُ مُضَافًا إلَى اخْتِيَارِهِ وَالْفَتْحُ سَبَبًا مَحْضًا، فَلَا حُكْمَ لَهُ كَمَا إذَا حَلَّ الْقَيْدَ عَنْ عَبْدِ إنْسَانٍ، حَتَّى آبِقَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ شَقِّ الزِّقِّ الَّذِي فِيهِ دُهْنٌ مَائِعٌ؛ لِأَنَّ الْمَائِعَ سَيَّالٌ بِطَبْعِهِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الِاسْتِمْسَاكُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ، إلَّا عَلَى نَقْضِ الْعَادَةِ، فَكَانَ الْفَتْحُ تَسَبُّبًا لِلتَّلَفِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا حَلَّ رِبَاطَ الدَّابَّةِ، أَوْ فَتَحَ بَابَ الْإِصْطَبْلِ، حَتَّى خَرَجَتْ الدَّابَّةُ وَضَلَّتْ، وَقَالُوا إذَا حَلَّ رِبَاطَ الزَّيْتِ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَائِبًا فَسَالَ مِنْهُ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ السَّمْنُ جَامِدًا فَذَابَ بِالشَّمْسِ وَزَالَ لَمْ يَضْمَنْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَائِعَ يَسِيلُ بِطَبْعِهِ إذَا وَجَدَ مَنْفَذًا بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ اسْتِمْسَاكُهُ عَادَةً، فَكَانَ حَلُّ الرِّبَاطِ إتْلَافًا لَهُ تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْجَامِدِ؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ طَبْعُ الْمَائِعِ لَا طَبْعُ الْجَامِدِ، وَهُوَ وَإِنْ صَارَ مَائِعًا لَكِنْ لَا بِصُنْعِهِ، بَلْ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ، فَلَمْ يَكُنْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا، فَلَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ صَبِيًّا صَغِيرًا حُرًّا مِنْ أَهْلِهِ فَعَقَرَهُ سَبْعٌ، أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، أَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ، أَوْ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْ الْغَاصِبِ تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْفُوظًا بِيَدِ وَلِيِّهِ، إذْ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا فَوَّتَ حِفْظَ الْأَهْلِ عَنْهُ وَلَمْ يَحْفَظْهُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى أَصَابَتْهُ آفَةٌ فَقَدْ ضَيَّعَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إتْلَافًا تَسْبِيبًا، وَالْحُرُّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً كَانَ أَوْ تَسْبِيبًا، وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يَتَّبِعُوا أَيَّهمَا شَاءُوا الْغَاصِبَ أَوْ الْقَاتِلَ.
(أَمَّا) الْقَاتِلُ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ مُبَاشَرَةً.
(وَأَمَّا) الْغَاصِبُ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَالتَّسَبُّبُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاشَرَةِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْلِ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ ضَمِنُوا فَإِنْ اتَّبَعُوا الْقَاتِلَ بِالْمَالِ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قَامَ مَقَامَ الْمُسْتَحَقِّ فِي حَقِّ مِلْكِ الضَّمَانِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي حَقِّ مِلْكِ الْمَضْمُونِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِهِ