للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَائِمَةً إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ الْمُؤَاخَذَةُ؛ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ قَالَ اللَّهُ : ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦] إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْكَلَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالِامْتِنَاعُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ جَادَ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوَابُ الْمُجَاهِدِينَ بِالنَّفْسِ هُنَا، وَقَالَ: «مَنْ قُتِلَ مُجْبَرًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ التَّكَلُّمُ بِشَتْمِ النَّبِيِّ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ لَمَّا أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ وَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَك يَا عَمَّارُ فَقَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَكُونِي حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إنْ عَادُوا فَعُدْ» فَقَدْ رَخَّصَ فِي إتْيَانِ الْكَلِمَةِ بِشَرِيطَةِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِالْعَوْدِ إلَى مَا وُجِدَ مِنْهُ، لَكِنْ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ أَفْضَلُ لِمَا مَرَّ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ شَتْمُ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ عِرْضَ الْمُسْلِمِ حَرَامُ التَّعَرُّضِ فِي كُلِّ حَالٍ قَالَ النَّبِيُّ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ» إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُ، لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ.

وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي سُقُوطِ الْمُؤَاخَذَةِ دُونَ الْحُرْمَةِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهُ حِفْظًا لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ وَإِيثَارًا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلُ وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ: إتْلَافُ مَالِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ حُرْمَةُ دَمِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ الْإِتْلَافُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلَوْ امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ قَضَى حَقَّ الْحُرْمَةِ فَكَانَ مَأْجُورًا لَا مَأْزُورًا وَكَذَلِكَ إتْلَافُ مَالِ نَفْسِهِ مُرَخَّصٌ بِالْإِكْرَاهِ لَكِنْ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ فَقُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِكْرَاهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الدَّفْعُ قَالَ النَّبِيُّ : «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ وَكَذَا مَنْ أَصَابَتْهُ الْمَخْمَصَةُ فَسَأَلَ صَاحِبَهُ الطَّعَامَ فَمَنَعَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ التَّنَاوُلِ حَتَّى مَاتَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ» لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ رَاعَى حَقَّ الْحُرْمَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا، فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا مِنْ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ وَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ وَالْعُضْوِ لَا يُرَخَّصُ لَهُ أَصْلًا، وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ.

وَإِنْ قَالَ: كَانَ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَيَأْثَمُ بِشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَإِتْلَافِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَلَكِنْ فِي أَكْبَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ مَا أَوْعَدَهُ لَا يُرَخَّصُ لَهُ الْفِعْلُ أَصْلًا، وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لِانْعِدَامِ الْإِكْرَاهِ شَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ بِالْإِكْرَاهِ أَصْلًا فَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا أَوْ تَامًّا؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ قَالَ اللَّهُ ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: ١٥١] ، وَكَذَا قَطْعُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَالضَّرْبُ الْمُهْلِكُ قَالَ اللَّهُ : ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: ٥٨] ، وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الْوَالِدَيْنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣] ، وَالنَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَهْيٌ عَنْ الضَّرْبِ دَلَالَةً بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً بِحُكْمِهَا فَلَا يُرَخَّصُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقْدَمَ يَأْثَمُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) ضَرْبُ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ كَضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيُرْجَى أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِهِ، وَكَذَا الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْمُكْرَهِ بِكَثِيرٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الضَّرَرِ لِإِحْيَاءِ أَخِيهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ أَوْ قَطَعَهُ أَوْ ضَرَبَهُ، فَقَالَ لِلْمُكْرَهِ: افْعَلْ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَلَوْ فَعَلَ فَهُوَ آثِمٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ أَثِمَ فَبِغَيْرِهِ أَوْلَى، وَكَذَا الزِّنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ بِالْإِكْرَاهِ، وَإِنْ كَانَ تَامًّا وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا ثَابِتَةٌ فِي الْعُقُولِ قَالَ اللَّهُ : ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا﴾ [الإسراء: ٣٢] فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً فِي الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ بِحَالٍ كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ لَا يُبَاحُ أَيْضًا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّ الْفَرْجَ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ.

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُرَخَّصُ لَهَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يُتَصَوَّرُ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا التَّمْكِينُ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَدْفُوعَةٌ إلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا كَمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ

<<  <  ج: ص:  >  >>