(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «عَفَوْتُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ، وَعَفْوُ الشَّيْءِ عَفْوٌ عَنْ مُوجَبِهِ فَكَانَ مُوجَبُ الْمُسْتَكْرَهِ عَلَيْهِ مَعْفُوًّا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْمُكْرِهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ مِنْ الْمُكْرَهِ صُورَةُ الْقَتْلِ فَأَشْبَهَ الْآلَةَ إذْ الْقَتْلُ مِمَّا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ كَإِتْلَافِ الْمَالِ، ثُمَّ الْمُتْلِفُ هُوَ الْمُكْرِهُ حَتَّى كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْقَاتِلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْقَاطِعُ حَقِيقَةً لَمَا اقْتَصَّ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْحَيَاةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩]
وَمَعْنَى الْحَيَاةِ شَرْعًا وَاسْتِيفَاءً لَا يَحْصُلُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ وَاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ يَسْلُبُ الِاخْتِيَارَ أَصْلًا فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا يَعْقِلُ مَا أُمِرَ بِهِ فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ الْمُكْرَهُ يَعْقِلُ وَهُوَ مُطَاعٌ أَوْ بَالِغٌ مُخْتَلَطُ الْعَقْلِ - وَهُوَ مُسَلَّطٌ - لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ.
وَلَوْ قَالَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِهِ الْمُكْرَهَ: اُقْتُلْنِي مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَكَذَا لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ رِوَايَتَانِ وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الدِّيَاتِ، وَمِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى قَتْلِ مُوَرِّثِهِ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُكْرَهِ صُورَةُ الْقَتْلِ لَا حَقِيقَتُهُ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْآلَةِ، فَكَانَ الْقَتْلُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرَهِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَلَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ.
(وَأَمَّا) الْمُكْرِهُ فَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ ﵃؛ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يُحْرَمُ لِانْعِدَامِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَالْكَفَّارَةِ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ بَالِغًا فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَهُوَ وَارِثُ الْمَقْتُولِ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْقَتْلِ جَازِمًا أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ، وَلِهَذَا إذَا قَتَلَهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لَا يُحْرَمُ فَإِذَا قَتَلَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَطْعِ يَدِ إنْسَانٍ إذَا قَطَعَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْقَتْلِ غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إذَا كَانَ أَذِنَ لِلْمُكْرَهِ بِقَطْعِ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَطَعَ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ، وَفِي بَابِ الْقَتْلِ إذَا أَذِنَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِهِ لِلْمُكْرَهِ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ فَهُوَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالْإِذْنُ بِإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَحْضِ مُبِيحٌ، فَالْإِذْنُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ حُكْمُ الْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِخِلَافِ النَّفْسِ يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ: لَتَقْطَعَنَّ يَدَك وَإِلَّا لَأَقْتُلَنَّكَ كَانَ فِي سِعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْمُكْرَهُ عَلَى الزِّنَا فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ﵀ يَقُولُ أَوَّلًا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَكَانَ طَائِعًا فِي الزِّنَا فَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ فَإِذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَجِيءُ مِنْ السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ، وَلَا يَجِدُ غَوْثًا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْهُ.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُ إنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ يَفْعَلُ، فَكَانَ فِعْلُهُ بِنَاءً عَلَى إكْرَاهِهِ فَيَعْمَلُ فِيهِ لِضَرُورَتِهِ مَدْفُوعًا إلَيْهِ خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ إحْدَى الْغَرَامَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَمَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute