للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ عِنْدَهُمَا، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ.

رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِيمَنْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَفَعَلَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى قَاطِعِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَهُمَا خَاصَّةً، كَمَا قَالَا فِيمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا قَطَعَ طَرَفَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَمَاتَ: إنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا، وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْقَطْعُ لَا الْقَتْلُ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصَ كَمَا قَالَ فِيمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدنَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَالَ اللَّه ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [النساء: ٩٢] فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي عِصْمَتِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَهُوَ مُكَثِّرٌ سَوَادَ الْكَفَرَةِ، وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ دِينًا فَهُوَ مِنْهُمْ دَارًا فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ.

وَلَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ تَاجِرَيْنِ أَوْ أَسِيرَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَالْكَفَّارَةُ فِي التَّاجِرَيْنِ، وَفِي الْأَسِيرَيْنِ خِلَافٌ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، وَلَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِثْلَ الْقَاتِلِ فِي كَمَالِ الذَّات، وَهُوَ سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الشَّرَفِ، وَالْفَضِيلَةِ فَيُقْتَلُ سَلِيمُ الْأَطْرَافِ بِمَقْطُوعِ الْأَطْرَافِ، وَالْأَشَلِّ، وَيُقْتَلُ الْعَالِمُ بِالْجَاهِلِ، وَالشَّرِيفُ بِالْوَضِيعِ، وَالْعَاقِلُ بِالْمَجْنُونِ، وَالْبَالِغُ بِالصَّبِيِّ، وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ الَّذِي يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كَوْنُ الْمَقْتُولِ مِثْلَ الْقَاتِلِ فِي شَرَفِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَنُقْصَانُ الْكُفْرِ، وَالرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ الْوُجُوبِ، فَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وَلَا الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ عَبْدًا ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ اُحْتُجَّ فِي عَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ لِثُبُوتِهَا مَعَ الْقِيَامِ الْمُنَافِي، وَهُوَ الْكُفْرُ؛ لِأَنَّهُ مُبِيحٌ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً مُتَنَاهِيَةً فَيُوجِبُ عُقُوبَةً مُتَنَاهِيَةً، وَهُوَ الْقَتْلُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ نَقْضُ الْعَهْدِ الثَّابِتِ بِالذِّمَّةِ فَقِيَامُهُ يُورِثُ شُبْهَةً؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا الذِّمِّيُّ؛ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْن الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ مَشْهُودٌ لَهُ بِالسَّعَادَةِ، وَالْكَافِرُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالشَّقَاءِ فَأَنَّى يَتَسَاوَيَانِ؟ .

(وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: ١٧٨] ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] ، وَقَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْن قَتِيلٍ وَقَتِيلٍ، وَنَفْسٍ وَنَفْسٍ، وَمَظْلُومٍ وَمَظْلُومٍ، فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩] ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى الْحَيَاةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ الدِّينِيَّةَ تَحْمِلُهُ عَلَى الْقَتْلِ خُصُوصًا عِنْدَ الْغَضَبِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَتْلُهُ لِغُرَمَائِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّاجِرِ أَمَسَّ فَكَانَ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ فِيهِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْحَيَاةِ أَبْلَغُ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ «أَقَادَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ، وَقَالَ أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى ذِمَّتَهُ» .

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْكَافِرِ الْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّهُ قَالَ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» عَطَفَ قَوْلَهُ، «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَانَ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ بِهِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ " مَمْنُوعٌ بَلْ دَمُهُ حَرَامٌ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ مَعَ قِيَامِ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ مَعَ قِيَامِ الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ: " الْكُفْرُ مُبِيحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ " مَمْنُوعٌ بَلْ الْمُبِيحُ هُوَ الْكُفْرُ الْبَاعِثُ عَلَى الْحِرَابِ، وَكُفْرُهُ لَيْسَ بِبَاعِثٍ عَلَى الْحِرَابِ فَلَا يَكُونُ مُبِيحًا، وَقَوْلُهُ: " لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ " قُلْنَا: الْمُسَاوَاةُ فِي الدِّينِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا، وَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>