مَعَهَا عَادَةً ثُمَّ جَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى فَالْقِصَاصُ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ الْقَاتِلُ؛ لِإِتْيَانِهِ بِفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، فَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَتَانِ مَعًا فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ.
وَلَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً، وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، وَلَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْجِرَاحَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُوتُ بِجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَمُوتُ بِجِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ قِصَاصًا اكْتِفَاءً، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَوَدِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀ يُنْظَرُ إنْ قَتَلَهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ قِصَاصًا، وَتُؤْخَذُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُمْ مَعًا فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ يُقْتَل، وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلْبَاقِينَ، وَفِي قَوْلٍ: يَجْتَمِعُ أَوْلِيَاءُ الْقَتْلَى فَيَقْتُلُونَهُ، وَتُقَسَّمُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ بَيْنَهُمْ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي بَابِ الْقِصَاصِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ بِهِ، فَيُقْتَلُ الْوَاحِدُ بِالْوَاحِدِ، وَتَجِبُ الدِّيَاتُ لِلْبَاقِينَ، كَمَا لَوْ قَطَعَ وَاحِدٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِهِمَا اكْتِفَاءً بَلْ يُقْطَعُ بِإِحْدَاهُمَا، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْأُخْرَى؛ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قِصَاصًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - غَيْرَ مَعْقُولٍ أَوْ مَعْقُولًا بِحِكْمَةِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ لِمَا يَغْلِبُ وُجُودُ الْقَتْلِ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ، وَقَتْلُ الْوَاحِدِ الْجَمَاعَةَ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ يَنْدُرُ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ، وَإِنَّا نَقُولُ: حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْقَتْلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمْ فَلَوْ أَوْجَبْنَا مَعَهُ الْمَالَ لَكَانَ زِيَادَةً عَلَى الْقَتْلِ.
وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمْ أَنَّ التَّمَاثُلَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يُرَاعَى فِي الْفِعْلِ زَجْرًا، وَإِمَّا أَنْ يُرَاعَى فِي الْفَائِتِ بِالْفِعْلِ جَبْرًا، وَإِمَّا أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا جَمِيعًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا، أَمَّا فِي الْفِعْلِ زَجْرًا فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْوَاحِدِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ فِعْلٌ مُؤَثِّرٌ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَالْمُسْتَحَقُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى قِبَلَ الْقَاتِلِ قَتْلُهُ، فَكَانَ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ.
وَأَمَّا فِي الْفَائِتِ جَبْرًا فَلِأَنَّهُ بِقَتْلِهِ الْجَمَاعَةَ ظُلْمًا انْعَقَدَ سَبَبُ هَلَاكِ وَرَثَةِ الْقَتْلَى؛ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ قَتْلَهُ طَلَبًا لِلثَّأْرِ وَتَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ فَيَقْصِدُ هُوَ قَتْلَهُمْ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَقَعُ الْمُحَارَبَةُ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ، وَمَتَى قُتِلَ مِنْهُمْ قِصَاصًا سَكَنَتْ الْفِتْنَةُ، وَانْدَفَعَ سَبَبُ الْهَلَاكِ عَنْ وَرَثَتِهِمْ فَتَحْصُلُ الْحَيَاةُ لِكُلِّ قَتِيلٍ مَعْنًى بِبَقَاءِ حَيَاةِ وَرَثَتِهِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْقَاتِلَ دَخِرَ حَيَاةَ كُلِّ قَتِيلٍ تَقْدِيرًا بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْ وَرَثَتِهِ، فَيَتَحَقَّقُ الْجَبْرُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا فِي قَتْلِ الْوَاحِدُ بِالْوَاحِدِ، وَالْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَتْلِ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً فَإِنْ كَانَ تَسْبِيبًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً، وَالْجَزَاءُ قَتْلٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَمَاتَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ قَتْلٌ سَبَبًا لَا مُبَاشَرَةً، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ شُهُودُ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ قَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ﵀.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ وَقَعَتْ قَتْلًا، لِأَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي ظُهُورِ الْقِصَاصِ، وَالظُّهُورَ مُؤَثِّرٌ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي وَقَضَاءَ الْقَاضِي مُؤَثِّرٌ فِي وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَوِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ مُؤَثِّرَةٌ فِي الِاسْتِيفَاء طَبْعًا وَعَادَةً، فَكَانَتْ فَوَاتُ الْحَيَاةِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى الشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ قَتْلًا تَسْبِيبًا، وَالْقَتْلُ تَسْبِيبًا مِثْلُ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً فِي حَقّ وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْقِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَتْلًا بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ لِوُقُوعِهِ قَتْلًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ، كَذَا هَذَا.
(وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا قَتْلٌ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَالْقَتْلُ مُبَاشَرَةً قَتْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالْجَزَاءُ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةَ الْمُكْرِهِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ وَضَرَبَهُ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى قَتْلِهِ، وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ فَكَانَ قَتْلًا مُبَاشَرَةً، وَيَضْمَنُونَ الدِّيَةَ بِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ، وَهَلْ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى الْوَلِيِّ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: لَا يَرْجِعُونَ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُونَ، وَلَهُمَا أَنَّ الشُّهُودَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قَامُوا مَقَامَ الْمَقْتُولِ فِي مِلْكِ بَدَلِهِ إنْ لَمْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي مِلْكِ