للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا تَظْهَرُ بِهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ، وَبَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَبَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ، وَبَيَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَشَرْطِ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ، وَبَيَانِ صِفَةِ الْفِدَاءِ الْوَاجِبِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهَذِهِ الْجِنَايَةُ تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَعِلْمِ الْقَاضِي، وَلَا تَظْهَرُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ مَا كَانَ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ إقْرَارِهِ لَا يَلْزَمُهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَوْلَاهُ، فَكَانَ هَذَا إقْرَارًا عَلَى الْمَوْلَى حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى صَحَّ إقْرَارَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بَعْدَ الْعَتَاقِ أَنَّهُ كَانَ جَنَى فِي حَالِ الرِّقِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا إقْرَارٌ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى، أَلَّا يُرَى لَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَأَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَوَجَبَ دَفْعُ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ حُكْمُهَا تَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ يُبَاعُ فِيهِ وَيُسْتَوْفَى الْأَرْشُ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَالْفَضْلُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِالْأَرْشِ يُتْبَعُ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْعَتَاقِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ، وَيُؤَدِّيَ الْأَرْشَ مِنْ مَالٍ آخَرَ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَانِي، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ أَوْ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ، وَالْعَبْدُ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا عَاقِلَةَ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عَلَيْهِ، فَتَجِبُ فِي رَقَبَتِهِ، يُبَاعُ فِيهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ فِي الْأَمْوَالِ.

(وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَذْهَبِنَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَكُونَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ، وَدَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى مَا عُرِفَ.

وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا الْحُكْمِ فَصَيْرُورَةُ الْعَبْدِ وَاجِبُ الدَّفْعِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ، كَثُرَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَوْ قَلَّتْ، وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ يَنْتَقِلُ الْحَقُّ مِنْ الدَّفْعِ إلَى الْفِدَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا دَفَعَ إلَيْهِ، وَيَصِيرُ كُلُّهُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُ إلَيْهِمْ، وَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أُرُوشِ جِنَايَتِهِمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ.

إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الْجَانِي قَبْلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ دَفْعُ الْعَبْدِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ الْحَقُّ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: " حُكْمُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ تَخَيُّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ، وَالْفِدَاءِ " لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَعَيَّنَ الْفِدَاءُ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَصْلًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُخَيَّرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْآخَرُ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لَا يَبْرَأُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَقَدْ انْتَقَلَ الْحَقُّ مِنْ رَقَبَتِهِ إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى فَلَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلُّ مِنْ الدِّيَةِ فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا الدَّفْعُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ حُكْمُهُ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ قَلِيلِ الْقِيمَةِ وَكَثِيرِهَا فَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ عَلَى جَمَاعَةٍ، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى دَفَعَهُ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ التَّعَلُّقَ فَالْحَقُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ، وَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِمْ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ قَدْرَ أُرُوشِ جِنَايَتِهِمْ، فَإِنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْعَبْدِ عِوَضٌ عَنْ الْفَائِتِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَائِتِ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْعَبْدَ، وَغُرِّمَ الْجِنَايَاتِ بِكَمَالِ أُرُوشِهَا، وَلَوْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ مِنْ الْعَبْدِ إلَى بَعْضِهِمْ مِقْدَارَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ وَيَفْدِي بَعْضَ الْجِنَايَاتِ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَتِيلُ وَاحِدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَأَرَادَ الْمَوْلَى دَفْعَ الْعَبْدِ إلَى أَحَدِهِمَا، وَالْفِدَاءَ إلَى الْآخَرِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هُنَاكَ وَاحِدَةٌ، وَلَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وُجُوبُ الْفِدَاءِ عَلَى التَّعْيِين، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ فِي جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى عَلَى جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هُنَاكَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَهُ خِيَارُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالدَّفْعُ فِي الْبَعْضِ وَالْفِدَاءُ فِي الْبَعْضِ لَا يَكُونُ جَمَعَا بَيْنَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا، وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ إلَيْهِمَا أَثَلَاثًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِالْعَبْدِ أَثْلَاثًا، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عَنْ كُلِّ جِنَايَةٍ بِأَرْشِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا شَجَّ إنْسَانًا شِجَاجًا مُخْتَلِفَةً أَنَّهُ إنْ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَيْهِمْ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عَنْ الْكُلِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>