مِعْصَمِهِ لِيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْوَضْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ اخْتَلَفَتْ، ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا الْوَضْعُ وَفِي بَعْضِهَا الْأَخْذُ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ فَكَانَ أَوْلَى، ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ، سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَزَادَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمَشَاهِيرِ وَلَا يَقْرَأُ: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ [الأنعام: ٧٩] لَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ وَلَا بَعْدَهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: يَقُولُ مَعَ التَّسْبِيحِ ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٧٩] ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢] ﴿لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣] وَلَا يَقُولُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَهَلْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْكَذِبَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةٍ يُقَدِّمُ التَّسْبِيحَ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَدَّمَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلٍ يَفْتَتِحُ بِقَوْلِهِ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لَا بِالتَّسْبِيحِ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي إلَخْ، وَقَالَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ إلَى آخِرِهِ، وَالشَّافِعِيُّ زَادَ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ قَوْلُهُ «اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَك بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ إنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا إنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، أَنَا بِكَ وَلَكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ» وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [الطور: ٤٨] ذَكَرَ الْجَصَّاصُ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُصَلِّي عِنْدَ الِافْتِتَاحِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ.
وَرَوَى هَذَا الذِّكْرَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِالْآحَادِ، ثُمَّ تَأْوِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعَاتِ، وَالْأَمْرُ فِيهَا أَوْسَعُ فَأَمَّا فِي الْفَرَائِضِ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا اشْتَهَرَ فِيهِ الْأَثَرُ أَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْآيَةِ أَوْ تَأَيَّدَ مَا رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْآيَةِ، ثُمَّ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ لِإِحْضَارِ النِّيَّةِ وَلِهَذَا لَقَّنُوهُ الْعَوَامَّ.
ثُمَّ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا، وَالْكَلَامُ فِي التَّعَوُّذِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّعَوُّذُ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: ٩٨] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ «أَبَا الدَّرْدَاءِ قَامَ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: تَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَمِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» ، وَكَذَا النَّاقِلُونَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ.
وَأَمَّا وَقْتُ التَّعَوُّذِ فَمَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّسْبِيحِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: وَقْتُهُ مَا بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ [النحل: ٩٨] الْآيَةَ، أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَنَا أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَلِأَنَّ التَّعَوُّذَ شُرِعَ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لَا بَعْدَهَا وَالْإِرَادَةُ مُضْمَرَةٌ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ فَإِذَا أَرَدْت قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ كَذَا قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦] أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَيْهَا.
وَأَمَّا مَنْ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ التَّعَوُّذُ فَهُوَ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ دُونَ الْمُقْتَدِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِ أَيْضًا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ أَوْ تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ فَكَانَ كَالشَّرْطِ لَهَا، وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَعَلَى قَوْلِهِ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ بَعْدَ الثَّنَاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ وَتَبَعُ الشَّيْءِ كَاسْمِهِ مَا يَتْبَعُهُ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ، إحْدَاهَا أَنَّهُ لَا تَعَوُّذَ عَلَى الْمُقْتَدِي عِنْدَهُمَا