للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَصِيَّةُ، ثُمَّ إذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ فَالْأَفْضَلُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْطِيَ الثُّلُثَ لِمَنْ يَقْرُبُ إلَيْهِمْ مِنْهُمْ، فَإِنْ جَعَلَهُ فِي، وَاحِدٍ فَمَا زَادَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ فَصَاعِدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ وَاحِدًا إلَّا نِصْفَ الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُحْصَوْنَ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكًا مِنْ مَجْهُولٍ، فَلَمْ تَصِحَّ.

وَلَوْ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِمَسَاكِينِهِمْ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَكِنْ عِنْدَهُمْ اسْمُ الْفَقِيرِ.

وَالْمِسْكِينِ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ لَا لِمَرْضَاةِ الْفَقِيرِ، فَيَقَعُ الْمَالُ لِلَّهِ تَعَالَى ﷿، ثُمَّ الْفُقَرَاءُ يَتَمَلَّكُونَ بِتَمْلِيكِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ؛ وَلِذَا كَانَ إيجَابُ الصَّدَقَةِ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى مِنْ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ، وَإِذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، فَلَوْ صَرَفَ الْوَصِيُّ جَمِيعَ الثُّلُثِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ وَاحِدًا مِنْهُمْ إلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْفُقَرَاءَ اسْمُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ إلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ يَقُومَانِ مَقَامَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الثِّنْتَيْنِ مِنْ الْبَنَاتِ مَقَامَ الثَّلَاثِ مِنْهُنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ.

وَكَذَا الِاثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يَقُومَانِ مَقَامَ الثَّلَاثِ فِي نَقْصِ حَقِّ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى قِيَامِ الْوَاحِدِ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ مَعَ مَا أَنَّ الْجَمْعَ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاجْتِمَاعِ، وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ اثْنَانِ، وَمُرَاعَاةُ مَعْنَى الِاسْمِ، وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْوَصِيَّةِ، وَصِيَّةٌ بِالصَّدَقَةِ، وَهِيَ إلْزَامُ الْمَالِ حَقًّا لِلَّهِ ، وَجِنْسُ الْفُقَرَاءِ مَصْرِفٌ مَا يَجِبُ لِلَّهِ ﷿ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْفُقَرَاءِ لِبَيَانِ الْمَصْرِفِ لَا لِإِيجَابِ الْحَقِّ لَهُمْ، فَيَجِبُ الْحَقُّ لِلَّهِ ، ثُمَّ يُصْرَفُ إلَى مَنْ ظَهَرَ رِضَا اللَّهِ بِصَرْفِ حَقِّهِ الْمَآلُ إلَيْهِ، وَقَدْ حَصَلَ بِصَرْفِهِ إلَى، فَقِيرٍ وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا جَازَ صَرْفُ مَا وَجَبَ مِنْ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ بِإِيجَابِ اللَّهِ ﷿ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِهِ ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾ [التوبة: ٦٠] .

وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنَّ مُرَاعَاةَ مَعْنَى الْجَمْعِ إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَأَمَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ، فَلَا بَلْ يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى مُطْلَقِ الْجِنْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ، وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَوْلِهِ إنْ كَلَّمْتُ بَنِي آدَمَ، أَوْ إنْ اشْتَرَيْتُ الْعَبِيدَ إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ حَتَّى يَحْنَثَ بِوُجُودِ الْفِعْلِ مِنْهُ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسِ، وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا غَايَةَ لَهُ، وَلَا نِهَايَةَ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوْلًى وَاحِدٌ أَنَّهُ لَا يُصْرَفُ كُلُّ الثُّلُثِ إلَيْهِ بَلْ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا الْتَزَمَ الْمَالَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ﷿ بَلْ مَلَّكَهُ لِلْمَوَالِي، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ.

وَكَذَا ذَلِكَ الْجَمْعُ لَهُ غَايَةٌ وَنِهَايَةٌ، فَكَانَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْجَمْعِ مُمْكِنًا، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ، بِخِلَافِ جَمْعِ الْفُقَرَاءِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ بَنِي فُلَانٍ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ، وَبَنُو فُلَانٍ قَبِيلَةٌ لَا تُحْصَى، وَلَا يُحْصَى فُقَرَاؤُهُمْ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، فَلَأَنْ تَصِحَّ لِفُقَرَاءِ الْقَبِيلَةِ أَوْلَى.

فَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِفُقَرَائِهِمْ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ، وَجْهَيْنِ: (إمَّا) إنْ كَانَ فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ.

(وَإِمَّا) إنْ لَمْ يَكُنْ أَبَا قَبِيلَةٍ بَلْ هُوَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ يُعْرَفُ بِأَبِي فُلَانٍ فَإِنْ كَانَ أَبَا قَبِيلَةٍ مِثْلَ تَمِيمٍ، وَأَسَدٍ، وَوَائِلٍ، فَإِنْ كَانَ بَنُوهُ يُحْصَوْنَ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، فَقَدْ قَصَدَ الْمُوصِي تَمْلِيكَ الْمَالِ مِنْهُمْ لَا الْإِخْرَاجَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مَعْلُومًا، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَغْنِيَاءِ بَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ يُحْصَوْنَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى أَبُ الْقَبِيلَةِ إضَافَةُ النِّسْبَةِ كَالْإِضَافَةِ إلَى الْقَبِيلَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مِنْ يُنْتَسَبُ إلَى فُلَانٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، وَصَارَ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِقَبِيلَةِ فُلَانٍ، وَلَوْ كَانَ لِبَنِي فُلَانٍ مَوَالِي عَتَاقَةٌ يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا مَوَالِي مَوَالِيهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ.

وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُمْ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ بَنِي فُلَانٍ إذَا كَانَ فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ هُوَ الْقَبِيلَةُ لَا أَبْنَاؤُهُ حَقِيقَةً، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْقَبِيلَةِ، وَالْمُنْتَمُونَ إلَيْهِمْ، وَالْحُلَفَاءُ، وَالْمَوَالِي

<<  <  ج: ص:  >  >>