بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَكِنْ يَكُونُ مُسِيئًا، وَلَوْ تَرَكَهُ سَهْوًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ حَتَّى لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا سُنَّةُ التَّشَهُّدِ فَهِيَ الْإِخْفَاءُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَعَدَّ مِنْهَا التَّشَهُّدَ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الثَّنَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَثْنِيَةِ وَالْأَدْعِيَةِ هُوَ الْإِخْفَاءُ وَهَلْ يُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ إذَا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يُشِيرُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْوَضْعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُشِيرُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي كِتَابِ الْمُسَبِّحَةِ حُدِّثْنَا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَيَصْنَعُ مَا صَنَعَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُنَا ثُمَّ كَيْفَ يُشِيرُ؟ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَعْقِدُ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ وَيُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَعْقِدُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَيُحَلِّقُ الْوُسْطَى مَعَ الْإِبْهَامِ وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ، وَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَالْكَلَامُ فِي صِفَةِ التَّسْلِيمِ وَقَدْرِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَحُكْمِهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ التَّسْلِيمِ، فَمِنْهَا أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّسْلِيمِ عَنْ الْيَمِينِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ؛ وَلِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الشِّمَالِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهَا أَوْلَى.
وَلَوْ سَلَّمَ أَوَّلًا عَنْ يَسَارِهِ أَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يُعِيدُ التَّسْلِيمَ عَنْ يَسَارِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يُبَالِغَ فِي تَحْوِيلِ الْوَجْهِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «كَانَ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأَوْلَى حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ أَوْ قَالَ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ» وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ شِدَّةِ الِالْتِفَاتِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّسْلِيمِ إنْ كَانَ إمَامًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعْلَامِ، وَمِنْهَا أَنْ يُسَلِّمَ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي التَّكْبِيرِ، وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا قَالَا فِي التَّكْبِيرِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمِنْهَا أَنْ يَنْوِيَ مَنْ يُخَاطِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ خِطَابَ مَنْ لَا يَنْوِي خِطَابَهُ لَغْوٌ وَسَفَهٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنْ الْحَفَظَةِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَبِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنْهُمْ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْحَفَظَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ ظَنَّ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ يُقَدِّمُ الْحَفَظَةَ فِي النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ خِطَابٌ فَيَبْدَأُ بِالنِّيَّةِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَهُمْ الْحَفَظَةُ ثُمَّ الرِّجَالُ ثُمَّ النِّسَاءُ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُقَدِّمُ الْبَشَرَ فِي النِّيَّةِ اسْتِدْلَالًا بِالسَّلَامِ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ قَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ إذْ الْمُرَادُ بِالصَّالِحِينَ الْمَلَائِكَةُ فَكَذَا فِي السَّلَامِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَرَى تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ ثُمَّ رَجَعَ فَرَأَى تَفْضِيلَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَهِيَ تَنْتَظِمُ الْكُلَّ جُمْلَةً بِلَا تَرْتِيبٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَى جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَتِّبَ فِي النِّيَّةِ فَيُقَدِّمُ الرِّجَالَ عَلَى الصِّبْيَانِ؟ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الْحَفَظَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْوِي الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَوَاحِدًا عَنْ يَسَارِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْوِي الْحَفَظَةَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَلَا يَنْوِي عَدَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بِطَرِيقِ الْإِحَاطَةِ وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْوِي مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لَا غَيْرُ، وَكَانَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يَقُولُ: يَنْوِي جَمِيعَ رِجَالِ الْعَالَمِ وَنِسَائِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ خِطَابٌ وَخِطَابُ الْغَائِبِ مِمَّنْ لَا يَبْقَى خِطَابُهُ وَلَيْسَ بِخَيْرٍ مِنْ خِطَابِ مَنْ يَبْقَى خِطَابُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ يَنْوِي الْحِفْظَةَ لَا غَيْرَ وَعَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ يَنْوِي الْحِفْظَةَ وَجَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
وَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَيَنْوِي مَا يَنْوِي الْإِمَامُ، وَيَنْوِي أَيْضًا إنْ كَانَ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ يَنْوِيهِ فِي يَسَارِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ يَنْوِيهِ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْوِيهِ فِي يَمِينِهِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute