للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّغَيُّرِ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وَأَرَادَ بِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الْإِنْكَارَ لِلْبَعْثِ يَكْفُرُ فَدَلَّ أَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِي الْوَضْعِ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِنْ كَلَامِهِمْ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ.

وَلَوْ أَنَّ فِي صَلَاتِهِ أَوْ بَكَى وَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّ الْأَنِينَ أَوْ الْبُكَاءَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُ لِخَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ فَيَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى خَلِيلَهُ بِالتَّأَوُّهِ فَقَالَ ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٤] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: ٧٥] ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ التَّأَوُّهِ فِي الصَّلَاةِ «وَكَانَ لِجَوْفِ رَسُولِ اللَّهِ أَزِيرٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ فِي الصَّلَاةِ» ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّوْتُ الْمُنْبَعِثُ عَنْ مِثْلِ الْأَنِينِ لَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا؛ وَلِأَنَّ التَّأَوُّهَ وَالْبُكَاءَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِمَسْأَلَةِ الْجَنَّةِ وَالتَّعَوُّذِ مِنْ النَّارِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ كَذَا هَذَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَكَلَامُ النَّاسِ مُفْسِدٌ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ آهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، وَإِذَا قَالَ: أَوْهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بِالتَّنَحْنُحِ وَالتَّنَفُّسِ، وَالثَّانِيَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا.

وَلَوْ عَطَسَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ فِي الصَّلَاةِ: يَرْحَمُك اللَّهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ؛ وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَاطِسِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، وَكَلَامُ النَّاسِ مُفْسِدٌ بِالنَّصِّ وَإِنْ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ أُخْبِرَ بِمَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ جَوَابَ الْمُخْبِرِ لَمْ تُقْطَعْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ جَوَابَهُ قَطَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَقْطَعُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ.

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْفَسَادَ لَوْ فَسَدَتْ إنَّمَا تَفْسُدُ بِالصِّيغَةِ أَوْ بِالنِّيَّةِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ الْأَذْكَارِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمَّا اُسْتُعْمِلَ فِي مَحَلِّ الْجَوَابِ وَفُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ صَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ كَمَنَ قَالَ لِرَجُلٍ اسْمِهِ يَحْيَى وَبَيْنَ يَدَيْهِ كِتَابٌ مَوْضُوعٌ: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَأَرَادَ بِهِ الْخِطَابَ بِذَلِكَ لَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يُعَدُّ مُتَكَلِّمًا لَا قَارِئًا، وَكَذَا إذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي بِأَيِّ مَوْضِعٍ مَرَرْتَ فَقَالَ: بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، وَأَرَادَ بِهِ جَوَابَ الْخِطَابِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ إذَا أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُوءُهُ فَاسْتَرْجَعَ لِذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ جَوَابَهُ لَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ قَطَعَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْجَوَابِ فِي اسْتِرْجَاعِهِ أَعِينُونِي فَإِنِّي مُصَابٌ وَلَمْ يُذْكَرْ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ فِي الْأَصْلِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَمَنْ سَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الِاسْتِرْجَاعُ إظْهَارُ الْمُصِيبَةِ وَمَا شُرِعَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ فَأَمَّا التَّحْمِيدُ فَإِظْهَارُ الشُّكْرِ وَالصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَلَوْ مَرَّ الْمُصَلِّي بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَسَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، أَوْ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَهُوَ حَسَنٌ إذَا كَانَ وَحْدَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ «قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ إلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا مَثَلٌ إلَّا وَقَفَ وَتَفَكَّرَ» .

وَأَمَّا الْإِمَامُ فِي الْفَرَائِضِ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ وَكَذَا الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي خُشُوعِهِ وَالْخُشُوعُ زِينَةُ الصَّلَاةِ، وَكَذَا الْمَأْمُومُ يَسْتَمِعُ وَيُنْصِتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٤] .

وَلَوْ اسْتَأْذَنَ عَلَى الْمُصَلِّي إنْسَانٌ فَسَبَّحَ وَأَرَادَ بِهِ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ «كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مَدْخَلَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِأَيِّهِمَا شِئْتُ دَخَلْتُ فَكُنْتُ إذَا أُتِيتُ الْبَابَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّلَاةِ فَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلْتُ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ فَانْصَرَفْتُ» وَلِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِصِيَانَةِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ رُبَّمَا يُلِحُّ الْمُسْتَأْذِنُ حَتَّى يُبْتَلَى هُوَ بِالْغَلَطِ فِي الْقِرَاءَةِ فَكَانَ الْقَصْدُ بِهِ صِيَانَةَ صَلَاتِهِ فَلَمْ تَفْسُدْ، وَكَذَا إذَا عَرَضَ لِلْإِمَامِ شَيْءٌ فَسَبَّحَ الْمَأْمُومُ وَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ إصْلَاحُ الصَّلَاةِ فَسَقَطَ حُكْمُ الْكَلَامِ عَنْهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِصْلَاحِ، وَلَا يُسَبِّحُ الْإِمَامُ إذَا قَامَ إلَى الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>