للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ حَدَثًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا احْتَمَلَ أَنَّ الدَّمَ خَرَجَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ خَرَجَ بِقُوَّةِ الْبُزَاقِ، فَلَا يُجْعَلُ حَدَثًا بِالشَّكِّ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا تَعَارَضَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدَهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ خَارِجًا بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا، وَالثَّانِي أَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا.

وَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ فَمَسَحَهُ مِرَارًا فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ تَرَكَهُ لَسَالَ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِلَّا، فَلَا، لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ، وَلَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ الرَّمَادَ، أَوْ التُّرَابَ فَتَشَرَّبَ فِيهِ، أَوْ رَبَطَ عَلَيْهِ رِبَاطًا فَابْتَلَّ الرِّبَاطُ، وَنَفَذَ قَالُوا: يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ سَائِلُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الرِّبَاطُ ذَا طَاقَيْنِ فَنَفَذَ إلَى أَحَدِهِمَا لِمَا قُلْنَا.

وَلَوْ سَقَطَتْ الدُّودَةُ أَوْ اللَّحْمُ مِنْ الْفَرْجِ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا، وَلَوْ سَقَطَتْ مِنْ السَّبِيلَيْنِ يَكُونُ حَدَثًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ الدُّودَةَ الْخَارِجَةَ مِنْ السَّبِيلِ نَجِسَةٌ فِي نَفْسِهَا لِتَوَلُّدِهَا مِنْ الْأَنْجَاسِ وَقَدْ خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا، وَخُرُوجُ النَّجِسِ بِنَفْسِهِ حَدَثٌ بِخِلَافِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْقُرْحِ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ نَفْسُهَا لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ اللَّحْمِ، وَاللَّحْمُ طَاهِرٌ، وَإِنَّمَا النَّجَسُ مَا عَلَيْهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ، وَتِلْكَ الرُّطُوبَاتُ خَرَجَتْ بِالدَّابَّةِ لَا بِنَفْسِهَا فَلَمْ يُوجَدْ خُرُوجُ النَّجَسِ، فَلَا يَكُونُ حَدَثًا.

وَلَوْ خَلَّلَ أَسْنَانَهُ فَظَهَرَ الدَّمُ عَلَى رَأْسِ الْخِلَالِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّهُ مَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ عَضَّ عَلَى شَيْءٍ فَظَهَرَ الدَّمُ عَلَى أَسْنَانِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ سَعَطَ فِي أَنْفِهِ وَوَصَلَ السَّعُوطُ إلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَنْفِ أَوْ إلَى الْأُذُنِ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ مَوْضِعَ الْأَنْجَاسِ، وَلَوْ عَادَ إلَى الْفَمِ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا قُلْنَا وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَيْءِ، لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْفَمِ إلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ فِي الْجَوْفِ.

وَلَوْ قَاءَ بَلْغَمًا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ حَدَثًا فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّاعِدِ مِنْ الْمَعِدَةِ، وَهُوَ حَدَثٌ عِنْدَ الْكُلِّ وَجَوَابُهُمَا فِي الْمُنْحَدِرِ مِنْ الرَّأْسِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحَدَثٍ عِنْدَ الْكُلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمُنْحَدَرِ مِنْ الرَّأْسِ اتِّفَاقٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ.

وَفِي الصَّاعِدِ مِنْ الْمَعِدَةِ اخْتِلَافٌ.

وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجَسٌ لِاخْتِلَاطَهِ بِالْأَنْجَاسِ، لِأَنَّ الْمَعِدَةَ مَعْدِنُ الْأَنْجَاسِ فَيَكُونُ حَدَثًا كَمَا لَوْ قَاءَ طَعَامًا أَوْ مَاءً، وَلَهُمَا أَنَّهُ شَيْءٌ صَقِيلٌ لَا يَلْتَصِقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَنْجَاسِ فَكَانَ طَاهِرًا عَلَى أَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ اعْتَادُوا أَخْذَ الْبَلْغَمِ بِأَطْرَافِ أَرْدِيَتِهِمْ، وَأَكْمَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّاعِدِ مِنْ الْمَعِدَةِ، وَأَنَّهُ حَدَثٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ نَجَسٌ وَجَوَابُهُمَا فِي الصَّاعِدِ مِنْ حَوَاشِي الْحَلْقِ، وَأَطْرَافِ الرِّئَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ صَافِيًا غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ، وَغَيْرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَصْعَدْ مِنْ الْمَعِدَةِ، فَلَا يَكُونُ نَجَسًا، فَلَا يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ كَانَ مَخْلُوطًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَعِدَ مِنْهَا فَكَانَ نَجِسًا فَيَكُونُ حَدَثًا، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.

وَأَمَّا إذَا قَاءَ دَمًا فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَصًّا، وَذَكَرَ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا قَلِيلًا كَانَ، أَوْ كَثِيرًا جَامِدًا كَانَ، أَوْ مَائِعًا.

وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ مَائِعًا يَنْقُضُ قَلَّ، أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا لَا يَنْقُضُ مَا لَمْ يَمْلَأْ الْفَمَ وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا مَا لَمْ يَمْلَأْ الْفَمَ كَيْفَمَا كَانَ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا صَحَّحُوا رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ، وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الْحَسَنِ، وَالْمُعَلَّى فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْمَائِعِ عَلَى الرُّجُوعِ.

وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا، لِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِأُصُولِ أَصْحَابِنَا فِي اعْتِبَارِ خُرُوجِ النَّجَسِ، لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ لَهُ، وَالْقَلِيلُ لَيْسَ بِخَارِجٍ لِمَا مَرَّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فَإِنَّهُ قَالَ، وَإِذَا قَلَسَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَمْ يُنْتَقَضْ الْوُضُوءُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الدَّمِ، وَغَيْرِهِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا حَقَّقُوا الِاخْتِلَافَ، وَصَحَّحُوا قَوْلَهُمَا، لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْقَلِيلِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَيْءِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِوُجُودِ الْخُرُوجِ حَقِيقَةً، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْفَمَ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ الْحَرَجِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُ.

وَلَا حَرَجَ فِي اعْتِبَارِ الْقَلِيلِ مِنْ الدَّمِ، لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ يَنْدُرُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ.

(وَأَمَّا) أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ، وَالْمَبْطُونِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَمَنْ بِهِ رُعَافٌ دَائِمٌ أَوْ رِيحٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّنْ لَا يَمْضِي عَلَيْهِ وَقْتُ

<<  <  ج: ص:  >  >>