اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا اقْتَصَرَ وُجُوبُ الدَّيْنِ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الزَّكَاةِ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَمَا لَمْ يَصِرْ دَيْنًا إمَّا بِفَرْضِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَسْقُطُ إذَا لَمْ يُوجَدْ قَضَاءُ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي، وَتَمْنَعُ إذَا فُرِضَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي لِصَيْرُورَتِهِ دَيْنًا، وَكَذَا نَفَقَةُ الْمَحَارِمِ تَمْنَعُ إذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ نَحْوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فَتَصِيرُ دَيْنًا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ طَوِيلَةً فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا بَلْ تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ مَحْضَةٌ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِي يَضْطَرُّ إلَى الْفَرْضِ فِي الْجُمْلَةِ فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ أَيْضًا، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِأَدْنَى الْمُدَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ نَفَقَةَ الْمَحَارِمِ تَصِيرُ دَيْنًا أَيْضًا بِالتَّرَاضِي فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَقَالُوا: دَيْنُ الْخَرَاجِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ وَكَذَا إذَا صَارَ الْعُشْرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ الطَّعَامَ الْعُشْرِيَّ صَاحِبُهُ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْعُشْرِ فَلَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلَّقٌ بِالطَّعَامِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ.
وَالطَّعَامُ لَيْسَ مَالَ التِّجَارَةِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَحَقًّا بِالدَّيْنِ.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ فِي النِّصَابِ أَوْ دَيْنِ الزَّكَاةِ بِأَنْ أُتْلِفَ مَالُ الزَّكَاةِ حَتَّى انْتَقَلَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الذِّمَّةِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: " لَا يَمْنَعُ كِلَاهُمَا "، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ يَمْنَعُ فَأَمَّا دَيْنُ الزَّكَاةِ فَلَا يَمْنَعُ " هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ زُفَرَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْبَاطِنَةَ لَا يُطَالَبُ الْإِمَامُ بِزَكَاتِهَا فَلَمْ يَكُنْ لِزَكَاتِهَا مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُطَالَبُ بِزَكَاتِهَا وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ قُرْبَةٌ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدَيْنِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ دَيْنِهَا هُوَ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ كَدَيْنِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَمُتَعَلِّقٌ بِالنِّصَابِ إذْ الْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ، وَاسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ يُوجِبُ النِّصَابَ إذْ الْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ.
وَحُكِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ: مَا حُجَّتُكَ عَلَى زُفَرَ؟ فَقَالَ: مَا حُجَّتِي عَلَى مَنْ يُوجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ؟ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا سِنِينَ كَثِيرَةً يُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ أَكْثَرَ مِنْهُ بِأَضْعَافِهِ وَإِنَّهُ قَبِيحٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ أَمَّا زَكَاةُ السَّوَائِمِ فَلِأَنَّهَا يُطَالَبُ بِهَا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا، وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ إذَا أَنْكَرَ الْحَوْلَ أَوْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ دُيُونِ الْعِبَادِ.
وَأَمَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَمُطَالَبٌ بِهَا أَيْضًا تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ وَكَانَ يَأْخُذُهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ إلَى زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَمَّا كَثُرَتْ الْأَمْوَالُ فِي زَمَانِهِ وَعَلِمَ أَنَّ فِي تَتَبُّعِهَا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِأَرْبَابِهَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُفَوِّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَصَارَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ كَالْوُكَلَاءِ عَنْ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ وَلْيَتْرُكْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ؟ فَهَذَا تَوْكِيلٌ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْإِمَامِ عَنْ الْأَخْذِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُمْ بِهَا، لَكِنْ إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تُهْمَةِ التَّرْكِ مِنْ أَرْبَابِهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ﵃.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ مِثْقَالٍ ذَهَبٍ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ سَنَتَيْنِ يُزَكِّي السَّنَةَ الْأُولَى، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ سَنَتَيْنِ، وَكَذَا هَذَا فِي مَالِ التِّجَارَةِ، وَكَذَا فِي السَّوَائِمِ إذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَضَى عَلَيْهَا سَنَتَانِ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ السَّنَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ شَاةٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ عَشْرًا وَحَالَ عَلَيْهَا حَوْلَانِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلثَّانِيَةِ شَاةٌ.
وَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ السَّوَائِمِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَة وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى مُسِنَّةٌ وَلِلثَّانِيَةِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ