كَانَتْ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً، أَوْ نُقْرَةً، أَوْ تِبْرًا، أَوْ حُلِيًّا مَصُوغًا، أَوْ حِلْيَةَ سَيْفٍ، أَوْ مِنْطَقَةٍ أَوْ لِجَامٍ أَوْ سَرْجٍ أَوْ الْكَوَاكِبِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْأَوَانِي، وَغَيْرِهَا إذَا كَانَتْ تَخْلُصُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ، أَوْ لِلنَّفَقَةِ، أَوْ لِلتَّجَمُّلِ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا.
وَهَذَا عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ إذَا كَانَ مُعَدًّا لِلُبْسٍ مُبَاحٍ أَوْ لِلْعَارِيَّةِ لِلثَّوَابِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ فِيهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ ﵄ وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ» ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: زَكَاةُ الْحُلِيِّ إعَارَتُهُ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ فِي وَجْهٍ مُبَاحٍ فَلَا يَكُونُ نِصَابُ الزَّكَاةِ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ بِخِلَافِ حُلِيِّ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي وَجْهٍ مَحْظُورٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِابْتِذَالَ إذَا كَانَ مُبَاحًا كَانَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا وَإِذَا كَانَ مَحْظُورًا كَانَ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ.
نَظِيرُهُ ذَهَابُ الْعَقْلِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ مَعَ ذَهَابِهِ بِسَبَبِ السُّكْرِ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ الْأَوَّلُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الثَّانِي كَذَا هَذَا.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: ٣٤] أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِكَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَرْكٍ إنْفَاقِهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَكَانَ تَارِكُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهُ كَانِزًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ وَلَا يَلْحَقُ الْوَعِيدُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ؛ وَلِأَنَّ الْحُلِيَّ مَالٌ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ الْإِعْدَادُ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّزَيُّنِ دَلِيلُ الْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ نِعْمَةً لِحُصُولِ التَّنَعُّمِ بِهِ فَيَلْزَمُهُ شُكْرُهَا بِإِخْرَاجِ جُزْءٍ مِنْهَا لِلْفُقَرَاءِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ صَيَارِفَةِ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ شَيْءٌ فِي بَابِ الْحُلِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مُعَارَضٌ بِالْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ زَكَّى حُلِيَّ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ، مَعَ مَا أَنَّ تَسْمِيَةَ إعَارَةِ الْحُلِيِّ زَكَاةً لَا تَنْفِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ إذَا قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِضَّةً خَالِصَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَغْشُوشَةً فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْفِضَّةُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغِشَّ فِيهَا مَغْمُورٌ مُسْتَهْلَكٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ وَالْمُكْحُلَةِ وَالْمُزَيَّفَةِ.
قَالَ: لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا كُلِّهَا الْفِضَّةُ وَمَا تَغْلِبُ فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ مُطْلَقًا.
وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ بِاسْمِ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْغِشُّ وَالْفِضَّةُ فِيهَا مَغْلُوبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَهِيَ الَّتِي الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً وَلَا مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِأَنْ كَانَتْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، وَالْفِضَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ فَإِذَا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ كَمَعْرُوضِ التِّجَارَةِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا ثَمَنًا رَائِجَةً اعْتَبَرْنَا مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ.
وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ فُلُوسٌ أَوْ دَرَاهِمُ رَصَاصٌ أَوْ نُحَاسٌ أَوْ مُمَوَّهَةٌ بِحَيْثُ لَا يَخْلُصُ فِيهَا الْفِضَّةُ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا، فَإِنْ بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْفِضَّةُ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصُّفْرَ وَنَحْوَهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ.
وَعَلَى هَذَا كَانَ جَوَابُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ بِالْغَطَارِفَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ فِي دِيَارِنَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً فَإِنْ كَانَتْ سِلَعًا لِلتِّجَارَةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا، أَوْ بِالضَّمِّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ.
وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يُفْتَى بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مِائَتَيْنِ فِيهَا رُبُعُ عُشْرِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْهَا عَدَدًا.
وَكَانَ يَقُولُ: " هُوَ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ فِينَا بِمَنْزِلَةِ الْفِضَّةِ فِيهِمْ وَنَحْنُ أَعْرَفُ بِنُقُودِنَا " وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ الْحَلْوَانِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ، وَقَوْلُ السَّلَفِ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفِقْهِ.
وَلَوْ زَادَ عَلَى نِصَابِ الْفِضَّةِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَيَجِبُ فِيهَا دِرْهَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: وَعَلَى هَذَا أَبَدًا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ