وَكَذَا إذَا بَاعَ مَالَ التِّجَارَةِ بِالسَّوَائِمِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَهَا سَائِمَةً يَضْمَنُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ خِلَافَ زَكَاةِ السَّائِمَةِ فَيَكُونُ اسْتِهْلَاكًا.
وَلَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ سَائِمَةً فَبَاعَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَثْمَانِ أَوْ بِجِنْسِهَا يَضْمَنُ وَيَصِيرُ قَدْرُ الزَّكَاةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ ذَلِكَ الْعِوَضِ؛ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى فَبَيْعُهَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لَهَا لَا اسْتِبْدَالًا، وَلَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَأَقْرَضَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَثَوَى الْمَالُ عِنْدَهُ ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِتْلَافُ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ ثَوْبًا فَأَعَارَهُ فَهَلَكَ لِمَا قُلْنَا وَقَالُوا فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ إذَا قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدَفَعَ بِهِ أَنَّ الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْأَوَّلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَصَالَحَهُ الْمَوْلَى مِنْ الدَّمِ عَلَى عَبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ.
وَقَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَصِيرًا لِلتِّجَارَةِ فَصَارَ خَمْرًا ثُمَّ صَارَ خَلًّا: إنَّهُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ هُوَ التَّخَمُّرُ وَأَثَرُ التَّخَمُّرِ فِي زَوَالِ صِفَةِ التَّقَوُّمِ وَلَا غَيْرَ، وَقَدْ عَادَتْ الصِّفَةُ بِالتَّخَلُّلِ فَصَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا كَانَ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الشَّاةِ إذَا مَاتَتْ فَدُبِغَ جِلْدُهَا أَنَّ جِلْدَهَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ الْمُصْدِقُ حَاضِرًا يَنْظُرُ إلَيْهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْبَائِعِ وَتَمَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَاةِ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ الْبَيْعِ فَحَضَرَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّفَرُّقِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْبَائِعِ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّائِمَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا اسْتِهْلَاكٌ لَهَا لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْلَاكِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ إذْ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ﵃ فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ فَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى زَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْهُ لِحُصُولِ الِاسْتِهْلَاكِ وَتَمَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ إذْ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ.
وَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى عَدَمِ الزَّوَالِ أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي كَمَا قُبِلَ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ كَأَنَّهُ اسْتَحَقَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَبِيعِ فَأَمَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَدْ تَأَكَّدَ زَوَالُ الْمِلْكِ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَأَكَّدَ الِاسْتِهْلَاكُ فَصَارَ الْوَاجِبُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَهَلْ يُشْتَرَطُ نَقْلُ الْمَاشِيَةِ مِنْ مَوْضِعِهَا مَعَ افْتِرَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا؟ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَشَرَطَهُ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ إنْ حَضَرَ الْمُصْدِقُ قَبْلَ النَّقْلِ فَلَهُ الْخِيَارُ.
وَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَلَوْ بَاعَ طَعَامًا وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ فَالْمُصَدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ حَضَرَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْعُشْرِ بِالْعَيْنِ آكِدٌ مِنْ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَالِكُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ؟ وَلَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْعُشْرُ قَبْلَ أَدَائِهِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَوْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ.
وَالْمَعْنَى مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا ﵏ فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَالْوَاجِبُ أَدَاءُ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَيُبْنَى عَلَيْهِ أَنَّ دَفْعَ الْقِيَمِ وَالْأَبْدَالِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: ﷺ «فِي الْخَمْسِ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» ، وَقَوْلُهُ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» .
وَكُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الزَّكَاةِ فَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَالْتَحَقَ الْبَيَانُ بِمُجْمَلِ الْكِتَابِ فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ " وَآتُوا الزَّكَاةَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ " فَصَارَتْ الشَّاةُ وَاجِبَةً لِلْأَدَاءِ بِالنَّصِّ.
وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ النَّصِّ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقَامَةُ السُّجُودِ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ مَقَامَ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ، وَالتَّعْلِيلُ فِيهِ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، وَصَارَ كَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا.
وَجَوَازُ أَدَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ عِنْدِي بِاعْتِبَارِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: ﷺ «خُذْ مِنْ الْإِبِلِ الْإِبِلَ» إلَّا أَنَّ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ أَوْجَبُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ تَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَإِذَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِأَدَاءِ بَعِيرٍ مِنْ الْخَمْسِ فَقَدْ تَرَكَ هَذَا التَّيْسِيرَ فَجَازَ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ.
وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ