للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شَعْرَةٍ، أَوْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى مَاسِحًا فِي الْعُرْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى مِقْدَارٍ يُسَمَّى الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَسْحًا فِي الْمُتَعَارَفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ.

وَقَدْ رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَنْ «النَّبِيِّ أَنَّهُ بَالَ، وَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ» فَصَارَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، إذْ الْبَيَانُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ تَارَةً، وَبِالْفِعْلِ أُخْرَى، كَفِعْلِهِ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَفِعْلِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ بِبَيَانِ النَّبِيِّ وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ الرُّبْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، كَمَا فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يَحِلُّ بِدُونِهِ، وَيَجِبُ الدَّمُ إذَا فَعَلَهُ فِي إحْرَامِهِ، وَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ، وَكَمَا فِي انْكِشَافِ الرُّبْعِ مِنْ الْعَوْرَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَمَا دُونَهُ لَا يَمْنَعُ، كَذَا هَهُنَا، وَلَوْ وَضَعَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ وَضْعًا، وَلَمْ يَمُدَّهَا جَازَ عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَهِيَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ النَّاصِيَةِ: وَالرُّبْعُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْقَدْرَ.

وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ وَلَا مَمْدُودَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَلَوْ مَدَّهَا حَتَّى بَلَغَ الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَسَحَ بِأُصْبُعٍ، أَوْ بِأُصْبُعَيْنِ، وَمَدَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ مِقْدَارَ الْفَرْضِ.

وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْمَسْحِ كَمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْغَسْلِ، فَإِذَا مَدَّ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ، فَجَازَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سُنَّةَ الِاسْتِيعَابِ تَحْصُلُ بِالْمَدِّ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَدِّ لَمَا حَصَلَتْ، لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.

(وَلَنَا) أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ مُلَاقَاتِهِ الْعُضْوَ، لِوُجُودِ زَوَالِ الْحَدَثِ، أَوْ قَصْدِ الْقُرْبَةِ، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْغَسْلِ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى لَهُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعُضْوِ مَاءً جَدِيدًا، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، فَلَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْسَحَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْمَدِّ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ، فَظَهَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى إقَامَةِ سُنَّةِ الِاسْتِيعَابِ، فَلَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ كَمَا فِي الْغَسْلِ.

وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَعَادَهَا إلَى الْمَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ جَازَ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَسْحُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ.

وَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْمَسْحِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلُ الْمَسْحِ رَأْسًا، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ بِبَطْنِهَا، وَبِظَهْرِهَا، وَبِجَانِبِهَا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى أُصُولِ الشَّعْرِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَرَجًا فَأُقِيمَ الْمَسْحُ عَلَى الشَّعْرِ مَقَامَ الْمَسْحِ عَلَى أُصُولِهِ، وَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِهِ وَكَانَ شَعْرُهُ طَوِيلًا فَإِنْ مَسَحَ عَلَى مَا تَحْتَ أُذُنِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ مَسَحَ عَلَى مَا فَوْقَهَا جَازَ، لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الشَّعْرِ كَالْمَسْحِ عَلَى مَا تَحْتَهُ، وَمَا تَحْتَ الْأُذُنِ عُنُقٌ، وَمَا فَوْقَهُ رَأْسٌ.

وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْقَلَنْسُوَةِ، لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ إصَابَةَ الْمَاءِ الشَّعْرَ، وَلَا يَجُوزُ مَسْحُ الْمَرْأَةِ عَلَى خِمَارِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَدْخَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا وَقَالَتْ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ إلَّا إذَا كَانَ الْخِمَارُ رَقِيقًا يُنْفِذُ الْمَاءَ إلَى شَعْرِهَا، فَيَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِصَابَةِ.

وَلَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ الْمَطَرُ مِقْدَارَ الْمَفْرُوضِ أَجْزَأَهُ مَسَحَهُ بِيَدِهِ أَوْ لَمْ يَمْسَحْهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْمَسْحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ وُصُولُ الْمَاءِ إلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

مَطْلَبُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ

(وَالرَّابِعُ) غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: ٦] بِنَصْبِ اللَّامِ مِنْ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: ٦] كَأَنَّهُ قَالَ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ، وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ.

وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ الْفَرْضُ هُوَ الْمَسْحُ لَا غَيْرُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمَسْحِ، وَالْغَسْلِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ، بِالنَّصْبِ، وَالْخَفْضِ فَمَنْ قَالَ بِالْمَسْحِ أَخَذَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْجُلِ مَمْسُوحَةً لَا مَغْسُولَةً؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الرَّأْسِ، وَالْمَعْطُوفُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ وَظِيفَةُ الرَّأْسِ الْمَسْحُ، فَكَذَا وَظِيفَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>