صَوْمُ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ: ﷺ «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَقَوْلِهِ: «مَنْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ، فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا» فَقَدْ جَعَلَ السَّنَةَ كُلَّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَوْلُهُ «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» جَعَلَ الدَّهْرَ كُلَّهُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عَنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ: «الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ» وَلِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَهَا كَانَ الصَّوْمُ حَسَنًا وَعِبَادَةً وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مَوْجُودَةٌ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَكَانَتْ الْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِي بَعْضِهَا، وَيُسْتَحَبُّ فِي الْبَعْضِ.
أَمَّا الصِّيَامُ فِي الْأَيَّامِ الْمَكْرُوهَةِ فَمِنْهَا: صَوْمُ يَوْمَيْ الْعِيدِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» .
وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ وَلِأَنَّهُ عَيَّنَ هَذِهِ الْأَيَّامَ لِأَضْدَادِ الصَّوْمِ فَلَا تَبْقَى مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ، وَالْمَعْقُولِ يَقْتَضِي جَوَازَ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَيُحْمَلُ التَّعْيِينُ عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ، تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَعِنْدَنَا يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ الْإِفْطَارُ.
وَمِنْهَا إتْبَاعُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُتْبِعُوا رَمَضَانَ صَوْمًا خَوْفًا أَنْ يَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِيَّةِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ رَمَضَانُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ، وَالْعِلْمِ يَصُومُهَا وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحِقَ أَهْلُ الْجَفَاءِ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَالْإِتْبَاعُ الْمَكْرُوهُ هُوَ: أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَصُومَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ.
فَأَمَّا إذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ صَامَ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ: فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَسُنَّةٌ.
وَمِنْهَا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ، أَوْ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ، أَمَّا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ﵃ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ وَلِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ فِي رَمَضَانَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مَنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَزِيدَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَأَمَّا النِّيَّةُ الْمُتَرَدِّدَةُ: بِأَنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَكُونُ تَطَوُّعًا فَلِأَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَرَدِّدَةَ لَا تَكُونُ نِيَّةً حَقِيقَةً لِأَنَّ النِّيَّةَ تَعْيِينٌ لِلْعَمَلِ، وَالتَّرَدُّدُ يَمْنَعُ التَّعْيِينَ.
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ: فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» ، اسْتَثْنَى التَّطَوُّعَ، وَالْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَالْمُرَادُ مِنْهُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ وَقَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» أَيْ: صَامَ عَنْ رَمَضَانَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ فِيهِ تَطَوُّعًا، أَوْ يُفْطِرَ، أَوْ يَنْتَظِرَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَلِيٍّ ﵄ أَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَيَقُولَانِ لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدْ صَامَا وَنَبَّهَا عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَوْ صَامَ لَدَارَ الصَّوْمُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَوْ أَفْطَرَ لَدَارَ الْفِطْرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي رَمَضَانَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي شَعْبَانَ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الصَّوْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَكَانَ يَضَعُ كُوزًا لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الشَّكِّ، فَإِذَا جَاءَهُ مُسْتَفْتٍ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ أَفْتَاهُ بِالْإِفْطَارِ وَشَرِبَ مِنْ الْكُوزِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُسْتَفْتِي، وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْتَى بِالصَّوْمِ لَاعْتَادَهُ النَّاسُ فَيَخَافُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْفَرِيضَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَامُ سِرًّا وَلَا يُفْتَى بِهِ الْعَوَامُّ لِئَلَّا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ زِيَادَةً عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ.
هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَأَفْتَى بِالْفِطْرِ ثُمَّ قَالَ لِلْمُسْتَفْتِي: تَعَالَ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخْبَرَهُ سِرًّا فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْتَظِرُ فَلَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ فَإِنْ تَبَيَّنَ