للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

، وَالْكَرْخِيُّ سَوَّى بَيْنَ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ وَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ نِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ صَوْمُ الشَّهْرِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْوَاجِبَ صَوْمُ الشَّهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] ، وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَانَ الصَّوْمُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ عِبَادَةً وَاحِدَةً كَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، فَيَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَنَا أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْيَوْمِ الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا يُفْسِدُ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ الْآخَرَ، فَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ نِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ.

وَقَوْلُهُ الشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا مَحَلٌّ لِلصَّوْمِ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهُ وَهُوَ اللَّيَالِي، فَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهُمَا فَصَارَ صَوْمُ كُلِّ يَوْمَيْنِ عِبَادَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَصَلَاتَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ دَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ حَتَّى لَوْ صَامَ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ لَا يَقَعُ عَمَّا عَلَيْهِ لِأَنَّ زَمَانَ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا تَعَيَّنَ لَهُ الْوَقْتُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ وَقْتٌ لِلصِّيَامَاتِ كُلِّهَا عَلَى الْإِبْهَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِلْبَعْضِ بِالنِّيَّةِ لِتَتَعَيَّنَ لَهُ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ أَدْنَى، وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَيَقَعُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَلَوْ نَوَى بِصَوْمِهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ، وَالتَّطَوُّعَ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ عَيَّنَ الْوَقْتَ لِجِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ مُتَنَافِيَتَيْنِ فَسَقَطَتَا لِلتَّعَارُضِ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ وَهُوَ نِيَّةُ الصَّوْمِ فَيَكُونُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي التَّطَوُّعِ لَغْوٌ فَلَغَتْ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ، وَالصَّوْمُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا فَإِنْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ عَنْ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا،، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ جِهَتَيْ التَّعْيِينِ تَعَارَضَتَا لِلتَّنَافِي فَسَقَطَتَا بِحُكْمِ التَّعَارُضِ فَبَقِيَ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ فَيَكُونُ تَطَوُّعًا، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّرْجِيحَ لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَخَلَفُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ أَقْوَى الصِّيَامَاتِ حَتَّى تَنْدَفِعَ بِهِ نِيَّةُ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ صَوْمٍ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَجَبَ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ أَقْوَى فَلَا يُزَاحِمُهُ الْأَضْعَفُ.

وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَصَامَهُ يَنْوِي النَّذْرَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ: فَهُوَ عَنْ النَّذْرِ لِتَعَارُضِ النِّيَّتَيْنِ فَتَسَاقَطَا وَبَقِيَ نِيَّةُ الصَّوْمِ مُطْلَقًا فَيَقَعُ عَنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ وَقْتُ النِّيَّةِ: فَالْأَفْضَلُ فِي الصِّيَامَاتِ كُلِّهَا أَنْ يَنْوِيَ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، أَوْ مِنْ اللَّيْلِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ تُقَارِنُ أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْ الْعِبَادَةِ حَقِيقَةً وَمِنْ اللَّيْلِ تُقَارِنُهُ تَقْدِيرًا، وَإِنْ نَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ دَيْنًا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ، وَالْمَنْذُورُ الْمُعَيَّنُ يَجُوزُ، وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ إلَّا التَّطَوُّعُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ التَّطَوُّعَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، فَكَذَا التَّطَوُّعُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصْبِحُ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ» .

وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ» وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي طَلْحَةَ.

وَأَمَّا الْكَلَامُ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ: فَبِنَاءٌ عَلَى أَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ كَصَوْمِ الْفَرْضِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ مُتَجَزِّئٌ حَتَّى قَالَ: يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِمْسَاكِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَحُجَّتُهُ مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ.

وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالصَّوْمُ لَا يَتَجَزَّأُ فَرْضًا كَانَ، أَوْ نَفْلًا وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لَكِنْ بِالنِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَقْتَ الرُّكْنِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ لِمَا نَذْكُرُ، فَإِذَا نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ خَلَا بَعْضُ الرُّكْنِ عَنْ الشَّرْطِ، فَلَا يَصِيرُ صَائِمًا شَرْعًا، وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا.

وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ

<<  <  ج: ص:  >  >>