للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ إلْقَاءِ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ، ثُمَّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ عِنْدَنَا، إذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ وَلَمْ يُضْعِفْهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ، وَالْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَذْهَبِهِ وَاحْتُجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٣] إلَى قَوْله تَعَالَى ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ [البقرة: ١٨٥] ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الصِّيَامَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامًّا أَيْ: مَفْرُوضٌ إذْ الْكِتَابَةُ هِيَ الْفَرْضُ لُغَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] ، وَالْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ فِي الْآدَابِ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْفَرَائِضِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ عَنْ الْأَدَاءِ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْنَا بِإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] أَيْ: يُرِيدُ الْإِذْنَ لَكُمْ بِالْإِفْطَارِ لِلْعُذْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ لِلِامْتِنَانِ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ مَعْنًى لِأَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ فِي صَوْمِ النَّفْلِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ [البقرة: ١٨٥] شَرَطَ إكْمَالَ الْعِدَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ دَلِيلُ لُزُومِ حِفْظِ الْمَتْرُوكِ لِئَلَّا يَدْخُلَ التَّقْصِيرُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ تَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ» أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَى الْمُسَافِرِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ الْإِفْطَارُ وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ، فَكَانَ وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَعْنَى الْعَزِيمَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسَافِرُ إنْ أَفْطَرَ فَرُخْصَةٌ وَإِنْ يَصُمْ فَهُوَ أَفْضَلُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَا يَجِبُ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا يُحْمَلَانِ عَلَى حَالِ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ صَامَ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا وُجُوبَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ.

وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ وَهُوَ التَّيْسِيرُ، وَالسُّهُولَةُ فِي الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ أَكْمَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ سُقُوطِ الْحَظْرِ، وَالْمُؤَاخَذَةِ جَمِيعًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ وَاشْتَغَلَ بِالْعَزِيمَةِ يَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ، لَكِنْ مَعَ هَذَا؛ الصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَمَّا الْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ مِنْ السَّفَرِ فَمَا فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، وَالْإِفْطَارُ فِي مِثْلِهِ وَاجِبٌ فَضْلًا عَنْ الْإِبَاحَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرَضِ.

وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى إفْطَارِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِالْقَتْلِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ فَمُرَخَّصٌ، وَالصَّوْمُ أَفْضَلُ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِفْطَارِ حَتَّى قُتِلَ يُثَابُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي الْإِكْرَاهِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ بِالتَّرْكِ لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ بَلْ بَقِيَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا، وَالتَّرْكُ حَرَامًا وَإِذَا كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِفْطَارُ حَرَامًا كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا، فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ فَكَانَ مُجَاهِدًا فِي دِينِهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ فَالْإِكْرَاهُ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ فِي حَقِّهِمَا بَلْ مُوجِبٌ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِفْطَارُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَقُتِلَ يَأْثَمُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ الْوُجُوبُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةِ التَّرْكِ أَصْلًا فَإِذَا جَاءَ بِالْإِكْرَاهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ فَكَانَ أَثَرُهُ فِي إثْبَاتِ رُخْصَةِ التَّرْكِ لَا فِي إسْقَاطِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْوُجُوبُ قَائِمًا فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا فَكَانَ بِالِامْتِنَاعِ بَاذِلًا نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَفْضَلَ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ فَالْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ التَّرْكِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلْإِكْرَاهِ أَثَرٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا إسْقَاطَ الْوُجُوبِ رَأْسًا وَإِثْبَاتَ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَهُنَاكَ يُبَاحُ لَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>