فَجَاوَزُوهَا إلَى الْجُحْفَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُحْرِمُوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا حَصَلُوا فِي الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُمْ مُحَافَظَةُ حُرْمَتِهِ فَيُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُهَا، وَلَوْ جَاوَزَ مِيقَاتًا مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَجَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَجَاوَزَهُ مُحْرِمًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَأَحْرَمَ الْتَحَقَتْ تِلْكَ الْمُجَاوَزَةُ بِالْعَدَمِ، وَصَارَ هَذَا ابْتِدَاءَ إحْرَامٍ مِنْهُ، وَلَوْ أَحْرَمَ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ، وَلَبَّى سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَا يَسْقُطُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْمِيقَاتِ بِمُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، وَجِنَايَتُهُ لَا تَنْعَدِمُ بِعَوْدِهِ، فَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ الَّذِي وَجَبَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ فِي مُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مُحْرِمًا، لَا فِي إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ مِنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ، وَلَمْ يُلَبِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَدَلَّ أَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ فِي مُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مُحْرِمًا، لَا فِي إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ مِنْهُ، وَبَعْدَ مَا عَادَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَقَدْ جَاوَزَهُ مُحْرِمًا، فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ: ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ، وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ أَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ مِنْ الْمِيقَاتِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا، وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْمُجَاوَزَةِ هُوَ التَّلْبِيَةُ، فَلَا يَقَعُ تَدَارُكُ الْفَائِتِ إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، ثُمَّ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ صَارَ ذَلِكَ مِيقَاتًا لَهُ.
وَقَدْ لَبَّى مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَلْبِيَةٌ، وَإِذَا لَمْ يُحْرِمْ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَانَ مِيقَاتُهُ الْمَكَانَ الَّذِي تَجِبُ التَّلْبِيَةُ مِنْهُ، وَهُوَ الْمِيقَاتُ الْمَعْهُودُ، وَمَا قَالَهُ زُفَرُ إنَّ الدَّمَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْمِيقَاتِ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَمَّا عَادَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فَمَا جَنَى عَلَيْهِ، بَلْ تَرَكَ حَقَّهُ فِي الْحَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ.
وَقَدْ تَدَارَكَهُ بِالْعَوْدِ إلَى التَّلْبِيَةِ، وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ حَتَّى طَافَ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ، أَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، أَوْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ الْإِحْرَامُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ تَأَكَّدَ عَلَيْهِ الدَّمُ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ، وَلَوْ عَادَ إلَى مِيقَاتٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي جَاوَزَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَعَوْدُهُ إلَى هَذَا الْمِيقَاتِ وَإِلَى مِيقَاتٍ آخَرَ سَوَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي عَادَ إلَيْهِ يُحَاذِي الْمِيقَاتَ الْأَوَّلَ أَوْ أَبْعَدَ مِنْ الْحَرَمِ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِلَّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ مِيقَاتٌ لِأَهْلِهِ، وَلِغَيْرِ أَهْلِهِ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا عَنْ اعْتِبَارِ الْمُحَاذَاةِ، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ لَكِنَّهُ أَفْسَدَ إحْرَامَهُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ إنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ أَوْ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، إنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَانْجَبَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْقَضَاءِ كَمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَضَاهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَكَذَلِكَ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ، وَسَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ، وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ يَلْزَمُهُ إمَّا حَجَّةٌ وَإِمَّا عُمْرَةٌ؛ لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمِيقَاتِ عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمِ بِدُونِ الْإِحْرَامِ لَمَّا كَانَ حَرَامًا كَانَتْ الْمُجَاوَزَةُ الْتِزَامًا لِلْإِحْرَامِ دَلَالَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ إحْرَامٌ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، كَذَا إذَا فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ كَمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ قَضَاءً لِمَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْمِيقَاتِ لِمُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، وَلَمْ يَتَدَارَكْهُ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ جَبْرًا، فَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ أَحْرَمَ يُرِيدُ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ مِيقَاتُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ بِالْحَرَمِ، وَفِي الْعُمْرَةِ بِالْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ بِمَكَّةَ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُجْزِئُهُ إحْرَامُهُ مِنْ مِيقَاتِهِمْ، فَإِنْ كَانَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ عَادَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةِ نَذْرٍ أَوْ عُمْرَةِ نَذْرٍ، سَقَطَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ عَاد إلَى الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا لَزِمَهُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute