للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي الْأَشْهُرِ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَلَا لِأَهْلِ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ: قِرَانٌ وَلَا تَمَتُّعٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ قِرَانُهُمْ وَتَمَتُّعُهُمْ.

وَجْهُ قَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: ١٩٦] جَعَلَ التَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ ثُمَّ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْحِلِّ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحُضُورِ لَهُمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ.

وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنْ تَوَابِعِ مَكَّةَ، وَإِلَّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ هُمْ دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ مَنَازِلُهُمْ مِنْ تَوَابِعِ مَكَّةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِحَاجَةٍ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَكَانُوا فِي حُكْمِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ، وَلَا قِرَانٌ، وَلِأَنَّ دُخُولَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثَبَتَ رُخْصَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: أَيْ لِلْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ بِالْحَجِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهَا غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِيهَا رُخْصَةٌ لِلْآفَاقِيِّ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ إنْشَاءِ السَّفَرِ لِلْعُمْرَةِ نَظَرًا لَهُ بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ.

وَمَنْ بِمَعْنَاهُمْ فَلَمْ تَكُنْ الْعُمْرَةُ مَشْرُوعَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِمْ.

وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثُمَّ رُخِّصَ، وَالثَّابِتُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْآفَاقِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَبَقِيَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِمْ مَعْصِيَةً، وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّمَتُّعِ أَنْ تَحْصُلَ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ لِلْمُتَمَتِّعِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا.

وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ؛ لِأَنَّهُ يُلِمُّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ التَّمَتُّعِ فِي حَقِّهِ.

وَلَوْ جَمَعَ الْمَكِّيُّ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ، لَكِنْ دَمُ كَفَّارَةِ الذَّنْبِ لَا دَمُ نُسُكٍ، شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَلَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا، وَعِنْدَهُ هُوَ دَمُ نُسُكٍ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَيَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ.

وَلَوْ أَحْرَمَ الْآفَاقِيُّ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَدَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، وَهُوَ يُرِيدُ التَّمَتُّعَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ مُحْرِمًا حَتَّى تَدْخُلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَيَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَيَكُونَ مُتَمَتِّعًا، فَإِنْ أَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ أَوْ بِأَكْثَرِهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

وَلَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى بَعْدَ مَا دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ مِيقَاتُهُمْ مِيقَاتَهُ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ التَّمَتُّعُ إلَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا: إلَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ أَوْ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ عَلَى مَا نَذْكُرُ.

وَلَوْ أَحْرَمَ مَنْ لَا تَمَتُّعَ لَهُ مِنْ الْمَكِّيِّ وَنَحْوِهِ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ يَلْزَمُهُ رَفْضُ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَعْصِيَةٌ، وَالنُّزُوعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ لَازِمٌ ثُمَّ يُنْظَرُ: إنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ رَأْسًا فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ عَمَلًا، وَالْحَجُّ أَكْثَرُ عَمَلًا فَكَانَتْ الْعُمْرَةُ أَخَفَّ مُؤْنَةً مِنْ الْحَجَّةِ فَكَانَ رَفْضُهَا أَيْسَرَ، وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ، وَيَمْضِي عَلَى حَجَّتِهِ، وَعَلَيْهِ لِرَفْضِ عُمْرَتِهِ دَمٌ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ لِمَا نَذْكُرُ، وَإِنْ كَانَ طَافَ لِعُمْرَتِهِ جَمِيعَ الطَّوَافِ أَوْ أَكْثَرَهُ لَا يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ، بَلْ يَرْفُضُ الْحَجَّ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ مُؤَدَّاةٌ، وَالْحَجَّ غَيْرُ مُؤَدًّى فَكَانَ رَفْضُ الْحَجِّ امْتِنَاعًا عَنْ الْأَدَاءِ، وَرَفْضُ الْعُمْرَةِ إبْطَالًا لِلْعَمَلِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَمَلِ دُونَ إبْطَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ طَافَ لَهَا شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً يَرْفُضُ الْحَجَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ أَدْنَى، وَأَخَفُّ مُؤْنَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهَا سُمِّيَتْ الْحَجَّةَ الصُّغْرَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْقَدْرِ الْمُؤَدَّى مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ، وَالْأَكْثَرُ غَيْرُ مُؤَدًّى، وَالْأَقَلُّ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَفْضَ الْحَجَّةِ امْتِنَاعٌ مِنْ الْعَمَلِ، وَرَفْضَ الْعُمْرَةِ إبْطَالٌ لِلْعَمَلِ، وَالِامْتِنَاعُ دُونَ الْإِبْطَالِ فَكَانَ أَوْلَى، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَجِّ عَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ إلَّا الْإِحْرَامُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>