وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِقُ لِلْحِجَامَةِ لَا لِنَفْسِهِ، وَالْحِجَامَةُ لَا تُوجِبُ الدَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَكَذَا مَا يَفْعَلُ لَهَا؛ وَلِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الشَّعْرِ قَلِيلٌ فَأَشْبَهَ الصَّدْرَ وَالسَّاعِدَ وَالسَّاقَ، وَلَا يَجِبُ بِحَلْقِهَا دَمٌ بَلْ صَدَقَةٌ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى حَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ أَمْرٌ مَقْصُودٌ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا؛ لِاسْتِفْرَاغِ الْمَادَّةِ الدَّمَوِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يُحْلَقُ تَبَعًا لِلرَّأْسِ وَلَا لِلرَّقَبَةِ فَأَشْبَهَ حَلْقَ الْإِبْطِ وَالْعَانَةِ، وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالْحَلْقِ: الْعَمْدُ، وَالسَّهْوُ، وَالطَّوْعُ، وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا وَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْمُفْرِدُ، وَالْقَارِنُ غَيْرَ أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا قَلْمُ الظُّفْرِ فَنَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَلْمُ أَظْفَارِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩] وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ، رَتَّبَ اللَّهُ تَعَالَى قَضَاءَ التَّفَثِ عَلَى الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي بِقَوْلِهِ ﷿: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج: ٢٨] ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩] ، فَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ؛ وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ نَبَاتٍ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ كَالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ، فَإِنْ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَتَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ.
وَإِنْ قَلَّمَ أَقَلَّ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِكُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: " إذَا قَلَمَ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ثَلَاثَةَ أَظَافِيرَ مِنْ الْيَدِ أَكْثَرُهَا، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ، وَلِأَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ: أَنَّ قَلْمَ مَا دُونَ الْيَدِ لَيْسَ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ " فَنَقُولُ: إنَّ الْيَدَ الْوَاحِدَةَ قَدْ أُقِيمَتْ مَقَامَ كُلِّ الْأَطْرَافِ فِي وُجُوبِ الدَّمِ، وَمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ لَا يَقُومُ أَكْثَرُهُ مَقَامَهُ، كَمَا فِي الرَّأْسِ أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ الرُّبُعُ فِيهِ مَقَامَ الْكُلِّ، لَا يُقَامُ أَكْثَرُ الرُّبُعِ مَقَامَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُقِيمَ أَكْثَرُ مَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ مَقَامَهُ؛ لَأُقِيمَ أَكْثَرُ أَكْثَرِهِ مَقَامَهُ فَيُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ التَّقْدِيرِ أَصْلًا وَرَأْسًا.
وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
فَإِنْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مُتَفَرِّقَةَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، لِكُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ " دَمٌ "، وَكَذَلِكَ لَوْ قَلَمَ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةَ أَظَافِيرَ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ جُمْلَتُهَا سِتَّةَ عَشَرَ ظُفْرًا، وَيَجِبُ فِي كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، إلَّا إذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الطَّعَامِ دَمًا فَيُنْقِصَ مِنْهُ مَا شَاءَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ دَمٌ، فَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ عَدَدَ الْخَمْسَةِ لَا غَيْرُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ التَّفَرُّقَ وَالِاجْتِمَاعَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَا مَعَ عَدَدِ الْخَمْسَةِ صِفَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَحِلٍّ وَاحِدٍ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ قَلْمَ أَظَافِيرِ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ إنَّمَا أَوْجَبَ الدَّمَ لِكَوْنِهَا رُبُعَ الْأَعْضَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ الْمُجْتَمِعُ وَالْمُتَفَرِّقُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْأَرْشِ بِأَنْ قَطَعَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مُتَفَرِّقَةٍ فَكَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْقَلْمِ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْنٌ وَيَصِيرُ مُثْلَةً، فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ، وَيَجِبُ فِي كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَةَ الطَّعَامِ دَمًا يُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّا إنَّمَا لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الدَّمَ لِعَدَمِ تَنَاهِي الْجِنَايَةِ لِعَدَمِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةَ الدَّمِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّمَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَإِنْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ، ثُمَّ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدِهِ الْأُخْرَى، أَوْ رِجْلِهِ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ لِمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: " عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ " وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وَحَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ، وَطَيَّبَ عُضْوًا وَاحِدًا أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ جِنْسٍ دَمًا عَلَى حِدَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَجْمَعُوا فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَامَعَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَأَكَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَشَرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَنَّهُ إنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ جَعَلَا اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ كَاتِّحَادِهِ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَطَعَ أَظَافِيرَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بِقَلْمِ أَظَافِيرِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ يَدٍ