للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ أَوْ عَلَيَّ هَدْيٌ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً، وَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا، وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ لِقَوْلِهِ ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الشَّاةُ، وَإِذَا كَانَتْ الشَّاةُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْهَدْيِ مَا لَا يَكُونُ مُسْتَيْسَرًا - وَهُوَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ - وَقَدْ رَوَيْنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ أَدْنَاهُ شَاةٌ» ، وَإِذَا كَانَتْ الشَّاةُ أَدْنَى الْهَدْيِ كَانَ أَعْلَاهُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ضَرُورَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ الْهَدْيُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالْبَدَنَةُ مِنْ اثْنَيْنِ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى، أَيْ: يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْغَنَمِ كَمَا يُوجَدُ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَيَجُوزُ سُبْعُ الْبَدَنَةِ عَنْ الشَّاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ «الْبَدَنَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ» .

وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ بَدَنَةٌ فَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا، وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا الْجَزُورُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْبَدَنَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْجَمَلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٣٦] ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْإِبِلِ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ﴾ [الحج: ٣٦] أَيْ: قَائِمَةً مُصْطَفَّةً، وَالْإِبِلُ هِيَ الَّتِي تُنْحَرُ كَذَلِكَ.

فَأَمَّا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا تُذْبَحُ مُضْجَعَةً وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «الْبَدَنَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ» .

حَتَّى قَالَ جَابِرٌ «نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ مَيَّزَ بَيْنَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ» فَدَلَّ أَنَّهُمَا غَيْرَانِ.

(وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: (الْهَدْيُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَالْبَدَنَةُ مِنْ اثْنَيْنِ) وَهَذَا نَصٌّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وَقَالَ: إنَّ رَجُلًا صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بَدَنَةً أَفَتَجْزِيهِ الْبَقَرَةُ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِمَّ صَاحِبُكُمْ؟ قَالَ مِنْ بَنِي رَبَاحٍ فَقَالَ مَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ، إنَّمَا الْبَقَرُ لِلْأَزْدِ وَإِنَّمَا وَهِمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ.

وَلَوْ لَمْ يَقَعْ اسْمُ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَقَرِ لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ مَعْنًى وَلَمَا سَأَلَهُ، فَقَدْ أَوْقَعَ الِاسْمَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لَكِنْ أَوْجَبَ عَلَى النَّاذِرِ الْإِبِلَ؛ لِإِرَادَتِهِ ذَلِكَ ظَاهِرًا؛ وَلِأَنَّ الْبَدَنَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْبَدَانَةِ - وَهِيَ الضَّخَامَةُ - وَأَنَّهَا تُوجَدُ فِيهِمَا، وَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الْجَوَازِ عَنْ سَبْعَةٍ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا جَوَازَ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَدَنَةِ عَلَى الْإِبِلِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ فِي الْحَدِيثِ فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَقَرَةِ مَا خَرَجَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَلْ عَلَى التَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ ﷿ ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب: ٧] ، وَكَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي أَهْلُ قَرْيَةِ كَذَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْعَطْفِ إنْ أُوِّلَ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي جَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ يَدُلُّ عَلَى الِاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى وَلَا حُجَّةَ مَعَ التَّعَارُضِ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ بَعِيرًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَزُورِ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى الْإِبِلِ.

وَيَجُوزُ إيجَابُ الْهَدْيِ مُطْلَقًا وَمُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ.

وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى كَذَا وَكَذَا عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ.

وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ مِنْ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا مِمَّا سِوَى النَّعَمِ جَازَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ.

وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُوفَةِ جَازَ.

وَأَمَّا فِي النَّعَمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَلَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ إلَّا فِي الْحَرَمِ فَيَذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَهُوَ الْأَفْضَلُ.

وَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِ فُقَرَاءِ مَكَّةَ جَازَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الثِّيَابِ فِي عَيْنِهَا وَهُوَ التَّصَدُّقُ بِهَا، وَالصَّدَقَةُ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ.

فَأَمَّا مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْهَدْيِ مِنْ النَّعَمِ فِي الْإِرَاقَةِ شَرْعًا، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً فِي الشَّرْعِ إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ الْإِرَاقَةَ هَهُنَا فِي الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] حَتَّى إذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءَ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ لَحْمًا صَارَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ فِي الصَّدَقَةِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ.

وَلَوْ جَعَلَ شَاةً هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ لَا يَجُوزُ.

(وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ اعْتِبَارُ الْبَدَنَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>