الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هَهُنَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الْعَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَأَمَّا لَفْظُ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَصِحُّ.
وَحُكِيَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ إنْ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالْحَالِّ بِأَنْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَكَ بِابْنَتِي هَذِهِ الْآنَ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَيَّدَهُ بِالْحَالِّ صَارَ مَجَازًا عَنْ التَّمْلِيكِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ أَصْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ الطَّعَامُ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُبِيحِ، حَتَّى كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَجْرِ وَالْمَنْعِ.
وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّمْلِيكِ؛ وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ عَقْدٌ مَفْسُوخٌ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ أَضَافَ الْهِبَةَ إلَى الْأَمَةِ؛ بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ: وَهَبْتُ أَمَتِي هَذِهِ مِنْكَ فَإِنْ كَانَ الْحَالُ يَدُلُّ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ، وَتَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، يُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَالُ دَلِيلًا عَلَى النِّكَاحِ، فَإِنْ نَوَى النِّكَاحَ فَصَدَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَكَذَلِكَ وَيُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ النِّيَّةِ.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يُنْصَرَفُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ - وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ - ثُمَّ النِّكَاحُ كَمَا يَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ يَنْعَقِدُ بِهَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، بِالْوَكَالَةِ، وَالرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ كَتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ، وَكَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّجَّاشِيَّ زَوَّجَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُمَّ حَبِيبَةَ ﵂ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ إمَّا أَنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ أَوْ لَا بِأَمْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ وَكِيلُهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ ﷺ عَقْدَهُ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَكَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْعِبَارَةِ يَنْعَقِدُ بِالْإِشَارَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَتْ إشَارَتُهُ مَعْلُومَةً وَيَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ خِطَابُهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -.
وَأَمَّا بَيَانُ صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ: زَوَّجْتُ وَتَزَوَّجْتُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ.
وَأَمَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: زَوِّجْنِي بِنْتَك أَوْ قَالَ: جِئْتُكَ خَاطِبًا ابْنَتَك أَوْ قَالَ جِئْتُك لِتُزَوِّجَنِي بِنْتَك فَقَالَ الْأَبُ: قَدْ زَوَّجْتُك أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: أَتَزَوَّجُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ: قَدْ تَزَوَّجْتُك عَلَى ذَلِكَ أَوْ قَالَ لَهَا: زَوِّجِينِي أَوْ انْكِحِينِي نَفْسَك فَقَالَتْ: زَوَّجْتُك أَوْ أَنْكَحْت يَنْعَقِدُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِقْبَالِ عُدَّةٌ، وَالْأَمْرُ مِنْ فُرُوعِ الِاسْتِقْبَالِ؛ فَلَمْ يُوجَدْ الِاسْتِقْبَالُ، فَلَمْ يُوجَدُ الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ بِلَالًا ﵁ خَطَبَ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ إلَيْكُمْ لَمَا خَطَبْتُ فَقَالُوا لَهُ: مَلَكْت» وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ بِلَالًا أَعَادَ الْقَوْلَ.
وَلَوْ فَعَلَ لِنَقُلْ.
وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَتَحَقَّقُ فِي النِّكَاحِ عَادَةً، فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّ السَّوْمَ مُعْتَادٌ فِيهِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَتَأَدَّى بِهِ الْإِيجَابُ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ -.
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ النِّكَاحَ هَلْ يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، سَوَاءً كَانَتْ وِلَايَتُهُ أَصْلِيَّةً، كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ، أَوْ دَخِيلَةً كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْوَكَالَةِ؛ بِأَنْ كَانَ الْعَاقِدُ مَالِكًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ، أَوْ كَانَ وَلِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، كَالْجَدِّ إذَا زَوَّجَ ابْنَ ابْنِهِ الصَّغِيرَ مِنْ بِنْتِ ابْنِهِ الصَّغِيرَةِ، وَالْأَخَ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ الصَّغِيرَةِ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ الصَّغِيرِ أَوْ كَانَ أَصِيلًا وَوَلِيًّا كَابْنِ الْعَمِّ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ رَسُولًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ كَانَ وَلِيًّا مِنْ جَانِبٍ وَوَكِيلًا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، أَوْ وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ امْرَأَةً لِتُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَصْلًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إذَا كَانَ وَلِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالنِّكَاحِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَمْ لَا؟ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ رُكْنَ النِّكَاحِ اسْمٌ لِشَطْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُوَ: الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، فَلَا يَقُومَانِ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ كَشَطْرَيْ الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي