لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ فَيَبْقَى التَّحْرِيمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ أَنَّهَا تَرْتَفِعُ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا فُرْقَةٍ وَلَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا، فَدَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ فَلَمْ تَكُنْ هِيَ زَوْجَةً لَهُ، وقَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون: ٧] سُمِّيَ مُبْتَغِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَادِيًا، فَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِدُونِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ وَقَوْلُهُ ﷿: ﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ [النور: ٣٣] ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إجَازَةَ الْإِمَاءِ نَهَى اللَّهُ ﷿ عَنْ ذَلِكَ، وَسَمَّاهُ بِغَاءً فَدَلَّ عَلَى الْحُرْمَةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ» وَعَنْ سَمُرَةَ الْجُهَنِيِّ ﵁ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ» ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» .
وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ قَائِمًا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَهُوَ يَقُولُ: إنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الْمُتْعَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيُفَارِقْهُ وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأُمَّةَ بِأَسْرِهِمْ امْتَنَعُوا عَنْ الْعَمَلِ بِالْمُتْعَةِ مَعَ ظُهُورِ الْحَاجَةِ لَهُمْ إلَى ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ لِاقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ لِأَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهَا، وَاقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْمُتْعَةِ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ فَلَا يُشْرَعُ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ﴾ [النساء: ٢٤] أَيْ: فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا هُوَ النِّكَاحُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَجْنَاسًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ فِي النِّكَاحِ، وَأَبَاحَ مَا وَرَاءَهَا بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ ﷿: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] أَيْ: بِالنِّكَاحِ، وقَوْله تَعَالَى: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ [النساء: ٢٤] أَيْ: غَيْرَ مُتَنَاكِحِينَ غَيْرَ زَانِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ [النساء: ٢٥] ذَكَرَ النِّكَاحَ لَا الْإِجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ، فَيُصْرَفُ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ﴾ [النساء: ٢٤] إلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَمَّى الْوَاجِبَ أَجْرًا فَنَعَمْ الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ يُسَمَّى أَجْرًا قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [النساء: ٢٥] أَيْ: مُهُورَهُنَّ.
وَقَالَ ﷾: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٠] وَقَوْلُهُ: أَمَرَ تَعَالَى بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ وَيُؤْخَذُ قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ قُلْنَا: قَدْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ تَعَالَى: قَالَ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إذَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ، أَيْ: إذَا أَرَدْتُمْ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] أَيْ: إذَا أَرَدْتُمْ تَطْلِيقَ النِّسَاءِ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الْإِجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ فَقَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ، وَرَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ﴾ [النساء: ٢٤] نَسَخَهُ قَوْلُهُ ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: ١] وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: الْمُتْعَةُ بِالنِّسَاءِ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا آيَةُ الطَّلَاقِ، وَالصَّدَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمَوَارِيثُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا النِّكَاحُ، أَيْ: النِّكَاحُ هُوَ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْمُتْعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَتَزَوَّجُكِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: (النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَهُوَ مُؤَبَّدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ) ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ إذَا ذَكَرَا مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارَ مَا يَعِيشَانِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ ذَكَرَا مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارَ مَا لَا يَعِيشَانِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ فِي الْغَالِبِ يَجُوزُ النِّكَاحُ كَأَنَّهُمَا ذَكَرَا الْأَبَدَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّهُ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَبَقِيَ النِّكَاحُ صَحِيحًا كَمَا إذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُك إلَى أَنْ أُطَلِّقَك إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا الْعَقْدُ لَكَانَ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَقَّتًا بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَبَّدًا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْنَى الْمُتْعَةِ إلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزَوُّجِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُقُودِ مَعَانِيهَا لَا الْأَلْفَاظُ كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ إنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى لِوُجُودِ الْحَوَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُهَا وَالْمُتْعَةُ مَنْسُوخَةٌ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِحْقَاقَ الْبُضْعِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَتَى بِالنِّكَاحِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ شَرْطًا فَاسِدًا