للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِمُجَاوَرَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا بِنَفْسِهِ وَكَوْنُهُ أَصْلَ الْآدَمِيِّ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَلِيلًا وَلَا عُمُومَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَتَشْبِيهُ ابْنِ عَبَّاسٍ إيَّاهُ بِالْمُخَاطِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْحُكْمِ لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الْمُخَاطِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِمَاطَةِ بِالْإِذْخِرِ لَا يَنْفِي الْأَمْرَ بِالْإِزَالَةِ بِالْمَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْإِمَاطَةِ كَيْ لَا تَنْتَشِرَ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ فَيَتَعَسَّرُ غَسْلُهُ.

(وَأَمَّا) الدَّمُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقَيْءُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ وَهُوَ قِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ الْوُضُوءُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجِسٌ، هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ نَجِسٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ بِنَفْسِهِ، وَالنَّجِسُ هُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام: ١٤٥] وَالرِّجْسُ: هُوَ النَّجِسُ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا مُحَرَّمَ سِوَاهَا فَيَقْتَضِي أَنْ لَا نَجِسَ سِوَاهَا إذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ مُحَرَّمًا، إذْ النَّجَسُ مُحَرَّمٌ، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَوَجْهٌ آخَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّهُ نَفَى حُرْمَةَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَأَثْبَتَ حُرْمَةَ الْمَذْكُورِ، وَعَلَّلَ لِتَحْرِيمِهِ بِأَنَّهُ رِجْسٌ - أَيْ نَجِسٌ - وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْمَذْكُورِ نَجِسًا لَكَانَ مُحَرَّمًا؛ لِوُجُودِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا مُحَرَّمَ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهِ، وَدَمُ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ لَيْسَ بِنَجِسٍ عِنْدَنَا، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل لَا يُنَجِّسُهُ، وَلَوْ أَصَابَ الثَّوْبَ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ نَجِسٌ لَكِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الثَّوْبِ لِلضَّرُورَةِ، (وَاحْتَجَّ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ [المائدة: ٣] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّائِلِ وَغَيْرِهِ، وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ.

(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] الْآيَةَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ فَلَوْ أُعْطِيَ لَهَا حُكْمَ النَّجَاسَةِ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا بِالنَّصِّ، وَبِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَدَمُ الْأَوْزَاغِ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ سَائِلٌ، وَكَذَا الدِّمَاءُ السَّائِلَةُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِمَا قُلْنَا، بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَجِسًا مِنْ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ فَمِنْ غَيْرِهِ أَوْلَى.

(وَأَمَّا) دَمُ السَّمَكِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدِّمَاءِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ طَاهِرٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى إبَاحَةِ تَنَاوُلِهِ مَعَ دَمِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا أُبِيحَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مَاءٌ تَلَوَّنَ بِلَوْنِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ الدَّمَوِيَّ لَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، وَالدَّمُ الَّذِي يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ وَلِهَذَا حَلَّ تَنَاوُلُهُ مَعَ اللَّحْمِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ فِي الْأَكْلِ غَيْرُ مَعْفُوٍّ فِي الثِّيَابِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ فِي الْأَكْلِ وَإِمْكَانِهِ فِي الثَّوْبِ.

(وَمِنْهَا) مَا يَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ الْبَهَائِمِ مِنْ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، (أَمَّا) الْأَبْوَالُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ بَوْلَ كُلِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ، وَاخْتُلِفَ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ نَجِسٌ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ طَاهِرٌ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُهُ، وَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ شُرْبَ أَبْوَالِ إبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا» مَعَ قَوْلِهِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» وَقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِي الرِّجْسِ شِفَاءٌ» فَثَبَتَ أَنَّهُ طَاهِرٌ (وَلَهُمَا) حَدِيثُ عَمَّارٍ «إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْبَوْلَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وقَوْله تَعَالَى ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَسْتَخْبِثُهُ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ - لَا لِاحْتِرَامِهِ وَكَرَامَتِهِ - تَنْجِيسٌ لَهُ شَرْعًا؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الِاسْتِقْذَارُ الطَّبِيعِيُّ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى فَسَادٍ وَهِيَ الرَّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ، فَصَارَ كَرَوْثَةِ وَكَبَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ ذَكَرَ قَتَادَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ أَمَرَ بِشُرْبِ أَلْبَانِهَا دُونَ أَبْوَالِهَا» فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ عَرَفَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ شِفَاءَهُمْ فِيهِ، وَالِاسْتِشْفَاءُ بِالْحَرَامِ جَائِزٌ عِنْدَ التَّيَقُّنِ لِحُصُولِ الشِّفَاءِ فِيهِ، كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَالْخَمْرِ عِنْد الْعَطَشِ، وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ وَإِنَّمَا لَا يُبَاحُ بِمَا لَا يُسْتَيْقَنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي لِحَدِيثِ

<<  <  ج: ص:  >  >>